بقلم: عدنان الدباغ
تمر الدول، ويبقى التوازن.
ولفهم هذه التوازنات، يجب البحث عما يكمن تحتها: روابط خفية بين السلطة والعرف والمطلق.
هنا تُبرزُ الحكمة السياسية المغربية: في فن التأليف، والتفاوض، واحتواء السلطة دون مطلقنتها.
غالبًا ما يُروى تاريخ المغرب عبر دوله – الدولة الإدريسية، الدولة المرابطية، الدولة العلوية… لكن اختزال هذه الدول في سلسلة حكام أو “عصور ذهبية” جامدة يُخفي حقيقة أكثر دقة. فالسلطة هنا لا تُفرض، بل تُنسج. تتشابك بين القبائل، المدن، والأولياء، في صرح هشّ لكنه صامد.
لم تكن السلطة المغربية يومًا مطلقة، ولا كتلة صماء. إنها هندسة دينامية، معادلة توازنات تُعاد صياغتها بلا توقف.
خذ الشرعية مثالًا. حتى الأدارسة، وهم من آل البيت، اضطروا للتحالف مع قبائل الأطلس المتوسط الأمازيغية. فإدريس الأول، هذا الغريب الهارب من العباسيين، لم يُتوج ملكًا بنسبه وحده، بل لأنه جلب السلام، المعرفة، والاستقرار.
البيعة، ذلك العهد بالولاء، لم تكن استسلامًا بل ميثاقًا قابلًا للتجديد. كان المولى إسماعيل، في القرن السابع عشر، يعيدها سنويًا مع القبائل. سلطة تُكتسب، لا بفرمان سماوي، بل بالعدل ، وحماية طرق القوافل، والتحكم في الموانئ ومناجم الملح. فالمقدس وحده لم يكفِ، بل كان لا بد من إثبات الجدارة.
حكم المغرب تطلّب الجمع بين عالمين: القبائل، التي تحكمها الأعراف (العرف(، والمدن، التي تنظمها الشريعة. فكانت الدول جسرًا بين هذين العالمين.
المرابطون، بدو صنهاجة، أسسوا مراكش لترسيخ سلطتهم في الحضر، مع الحفاظ على شبكة قضاة جوالين بين القبائل.

بعد ثلاثة قرون، عزز المرينيون جهاز الدولة (المخزن) معتمدين على جيوش القبائل الموالية. لكن الأطلس، الريف، وأطراف الصحراء حافظت دائمًا على استقلاليتها. فكان السلطان يُعترف به أميرًا للمؤمنين، لكن ليس بالضرورة حاكمًا سياسيًا. هذا النموذج الثنائي، بين مركز رمزي وأطراف مقاوِمة، جعل من السلطة المغربية كيانًا متناقض الظاهر: مركزيًا في الشكل، لكنه دائمًا خاضعٌ لوقائع الأرض. فكانت قوة الدولة تقاس بقدرتها على إدامة هذا التوازن الدقيق.
اعتمد المرينيون، كالعلويين من بعدهم، على التحالفات النسائية أيضًا – سواء عبر الزيجات الاستراتيجية مع بنات القياد، أو عبر الإدارة الأمومية للأراضي في بعض القبائل. هذه الآليات الخفية، التي طالما أُهملت، كانت في الواقع دعامات أساسية لاستمرارية الدول.
وحين تزول الدول، تبقى بعض البنى.
دليل على أن السلطة المغربية كانت مؤسساتية في جوهرها. فالأحباس (الحبوس)، تلك الممتلكات الوقفية التي يديرها العلماء، موّلت المساجد، المدارس، وشكلًا من الرعاية الاجتماعية سبقت عصرها. طوائف فاس – النساجون، الدباغون، الصفارون – المنظمة منذ القرن الثاني عشر، حافظت على استقلاليتها، ضامنة استمرارية اقتصادية تتجاوز العهود. أما الزوايا، كالزاوية الدلائية، فقد قدّمت إطارًا روحانيًا، قانونيًا، وأحيانًا عسكريًا، قادرًا على سد الفراغ الذي يتركه مركز يضعف. حتى الملّاح، تلك الأحياء اليهودية التي أنشأها الموحدون ثم عززتها الدول اللاحقة، اندمجت في نسيج الحكم. لم تكن معازل، بل فضاءات تبادل، استقلال، وولاء سياسي. فيها يُتفاوض على الضرائب، الحماية، والمعرفة – شواهد على أن إدماج الأقليات كان استراتيجية بقاء، لا استثناءً.
لم تكن التحولات بين الدول انقطاعات، بل ورشات سياسية. حين سقطت الدولة السعدية في القرن السابع عشر، بعد ثلاثين عامًا من الفوضى، وُلدت الدولة العلوية. ترسخت هذه الدولة الجديدة في تافيلالت، تحالفت مع علماء فاس، ودمجت نُخب المرينيين في الإدارة. أما سقوط الموحدين، فقد أتاح للمرينيين صياغة نموذج مديني وعلمي، جعل من المدارس، الدبلوماسية، وحسن استقبال اليهود والأندلسيين أدوات شرعية. كل سقوط كان ميلادًا. كل فراغ، إعادة تشكيل.
هذا المنطق لا يزال حيًا اليوم. حين تعيد الدولة ترميم المعابد اليهودية، تُعلي من شأن الزوايا، أو تُدستِر الأمازيغية، فهي لا تقطع مع التاريخ – بل تُنمّيه. لا تنسخ، بل تُخصب. لم تكن الدول المغربية كياناتٍ جامدة، بل أقواسًا تربط بين ضفّات متحركة: قبائل وحضر، صحراء وجبل، مقدس وواقعية.
كانت حكّامًا لموازين القوى أكثر من كونها سلطات مطلقة. ليست فصولًا في تاريخ المغرب. إنها كيانات حية، تثبت أن الدولة يمكن أن تكون عريقة ومرنة، أصيلة ومنفتحة.
كما كتب ابن خلدون: “الدولة كالشجرة، أصلها ثابت، وفروعها في السماء”.
في الجزء القادم من هذه السلسلة، سنتعمق في طبقات التاريخ لنكتشف الخيوط الثلاثة التي تُحيك روح المغرب: السلطة، القبيلة، الروحانية. ثالوث ظل حتى أعظم السلاطين فيه مجرد حُكّام توازن.