الحكم الذاتي ما بين الهيئة الناخبة وتأهيل النخب

استكمالا لنشر الورقة المرجعية التي أعدها الدكتور مولاي بوبكر حمداني، المتخصص في العلاقات الدولية ورئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، على أجزاء، وتحت عنوان: “مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”.

نضع بين يدي القراء الجزء الخامس الذي يتناول المدخلين المرتبطين بالهيئة الناخبة وتأهيل النخب.

 

 

المدخل المرتبط بالهيئة الناخبة: إشكالية التحديد بين الحق التاريخي ومتطلبات الحل السياسي

 

يطرح تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، وخاصة في شقه المتعلق بإنشاء هيئات جهوية منتخبة (برلمان وحكومة جهوية) تتمتع بصلاحيات واسعة، مسألة حساسة ومعقدة من الناحية القانونية والسياسية والديمغرافية، وهي مسألة تحديد “الهيئة الناخبة” (Electorate)، أي مجموع الأشخاص الذين سيحق لهم المشاركة في انتخاب هذه الهيئات ومن ثم الاستفادة من الحقوق وتحمل الواجبات المرتبطة بنظام الحكم الذاتي.

فالهيئة الناخبة أو الجسم الشعبي الذي يحق له التعبير عن إرادته فيما يتعلق بمستقبل إقليم الصحراء بهذا المنحى تعد إحدى أكثر النقاط حساسية وتعقيداً في صلب النزاع، سواء في سياق خطط التسوية السابقة القائمة على الاستفتاء أو في إطار النقاش الحالي حول تنزيل حل سياسي قائم على الحكم الذاتي، إن تحديد “من” له الحق في المشاركة في تقرير مصير الإقليم أو في انتخاب هيئاته التمثيلية المستقبلية ليس مجرد مسألة إجرائية، بل يمس جوهر مبدأ تقرير المصير نفسه ويطرح إشكاليات قانونية وسياسية وديموغرافية عميقة الجذور.

وفي هذا الإطار، يكتسب الإحصاء الذي أجرته السلطات الاستعمارية الإسبانية عام 1974 أهمية قانونية وتاريخية مركزية، لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها عند مقاربة مسألة الهيئة الناخبة، فهذا الإحصاء، على الرغم من الانتقادات التي قد توجه لمنهجيته أو شموليته، يمثل اللبنة الأساسية والمرجع الرسمي الوحيد المتاح والمعترف به دولياً لتحديد هوية السكان الذين كانوا يقطنون فعلياً في إقليم “الصحراء الإسبانية” عشية إنهاء الاستعمار الإسباني واندلاع النزاع.

كما استقر القانون الدولي المتعلق بتصفية الاستعمار، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الجمعية العامة ذات الصلة (خاصة القرار 1514 (د-15) بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، والقرار 1541 (د-15) الذي يحدد المبادئ التي يجب أن تسترشد بها الدول الأعضاء في تحديد ما إذا كان يترتب عليها أو لا يترتب عليها الالتزام المنصوص عليه في المادة 73 (هـ) من الميثاق المتعلقة بنقل المعلومات عن الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي)، على إن الحق في تقرير المصير الخارجي (External Self-determination)، أي الحق في تحديد الوضع السياسي النهائي للإقليم (الاستقلال، الاندماج، أو أي وضع سياسي آخر يتم اختياره بحرية)، يعود للشعب الأصلي للإقليم غير المتمتع بالحكم الذاتي كما كان معرفاً وموجوداً في “التاريخ الحاسم” (Critical Date)، أي لحظة انتهاء السيطرة الاستعمارية أو الفترة التي تسبقها مباشرة.

وبالتالي شكل هذا المبدأ الأساس الذي قامت عليه جهود الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء تقرير المصير في الصحراء بموجب خطة التسوية لعام 1991، حيث أنشأت الأمم المتحدة “لجنة تحديد الهوية” (Identification Commission) التابعة لبعثة المينورسو، وكلفتها بمهمة مضنية ومعقدة تمثلت في تحديد هوية الأفراد الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء، وذلك بالاعتماد بشكل أساسي على إحصاء 1974 الإسباني كقاعدة بيانات مرجعية، مع معايير إضافية للتحقق من الانتماء للإقليم، وقد واجهت هذه العملية صعوبات جمة وعراقيل سياسية أدت في نهاية المطاف إلى استحالة إتمامها وتعثر خطة التسوية برمتها، وكان من أبرز أسباب هذا التعثر هو الخلاف العميق حول تفسير وتطبيق معايير الأهلية، ومحاولات إدراج أعداد كبيرة من الأفراد الذين لم تثبت صلتهم المباشرة والمستمرة بالإقليم قبل عام 1975.

وفي ضوء ما تقدم برزت أهمية الحجة القانونية والسياسية القائلة بضرورة الحفاظ على نقاء وسلامة الهيئة الناخبة الأصلية المنبثقة عن إحصاء 1974 وذريتهم المباشرة، وعدم السماح بـ”إغراقها” أو “تمييعها” من خلال إدراج أعداد كبيرة من السكان القادمين من دول الجوار (كالجزائر وموريتانيا ومالي وغيرها)، حتى وإن كانوا يتقاسمون بعض الخصائص اللغوية (الحسانية) أو الثقافية أو القبلية مع سكان الصحراء الأصليين، فالانتماء القبلي أو الثقافي العابر للحدود، وهو سمة مميزة للمنطقة الساحلية-الصحراوية بأكملها، لا يمنح تلقائياً الحق في تقرير المصير السياسي لإقليم محدد له حدوده المعترف بها دولياً كإقليم غير متمتع بالحكم الذاتي.

وهذا القلق سبق وان عبرت عنه المملكة المغربية فيما يتعلق بأي حديث مستقبلي عن “حق العودة” لسكان المخيمات إلى الأقاليم الجنوبية، حيث أكد ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة السفير عمر هلال، أن أي عملية للعودة يجب أن تجد مرجعيتها القانونية الوحيدة والحصرية في الإطار الذي تم اعتماده دولياً لهذا الغرض، والمتمثل بشكل أساسي في الإحصاء السكاني الذي أجرته الإدارة الاستعمارية الإسبانية عام 1974، وموضحا أن غياب إحصاء رسمي يفتح الباب أمام التلاعب بالتركيبة السكانية للمخيمات وإدخال أفراد لا تربطهم علاقة تاريخية أو ديمغرافية بالأقاليم الجنوبية.

وحيث إن الحق في تقرير المصير، في سياق تصفية الاستعمار، يبقى حق للسكان المحددين المرتبطين بالإقليم المعني بالذات، وليس حقاً مفتوحاً لكل من يشاركهم بعض السمات الثقافية أو الإثنية عبر الحدود، فإن أي محاولة لتوسيع نطاق الهيئة الناخبة بشكل مصطنع لتشمل مجموعات سكانية لا تنتمي تاريخياً وجغرافياً لمنطقة النزاع المحددة، من شأنها أن تشوه جوهر مبدأ تقرير المصير، وتحرف مساره لخدمة أجندات سياسية لدول أخرى، وتخل بالتوازن الديموغرافي الذي كان قائماً عشية إنهاء الاستعمار، وهو ما يتعارض مع روح ونص قرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي المتعلقة بتصفية الاستعمار.

ومع التسليم بأن مسار الأمم المتحدة قد تطور نحو البحث عن “حل سياسي واقعي وعملي ودائم وقائم على التوافق”، وأن مجلس الأمن قد وصف المبادرة المغربية للحكم الذاتي بأنها “جدية وذات مصداقية”، فإن هذا التطور لا يلغي الأهمية القانونية والتاريخية لإحصاء 1974 كمرجع أساسي لتحديد “النواة الصلبة” للساكنة الصحراوية الذي يعود لها الحق الأصيل في التعبير عن إرادتها بشأن مستقبل الإقليم، فحتى في إطار حل قائم على الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية، فإن قبول وموافقة السكان الصحراويين الأصليين المنحدرين من هذا الإحصاء على هذا الحل يعتبر شرطاً جوهرياً لضمان شرعيته ومصداقيته واستدامته، يجب أن يتضمن أي اتفاق نهائي آليات واضحة تضمن أن تكون لهذه المجموعة السكانية الأصلية الكلمة الفصل أو الدور المحوري في المصادقة على نظام الحكم الذاتي، وأن يتمتعوا بضمانات خاصة داخل مؤسسات الحكم الذاتي المستقبلية تحافظ على هويتهم وحقوقهم ودورهم الريادي في تدبير شؤون جهتهم.

على إن هذا التأكيد على مركزية دور السكان الصحراويين الأصليين المنبثقين عن إحصاء 1974 لا يعني بالضرورة إقصاءً كاملاً لباقي المواطنين المغاربة المقيمين حالياً في الأقاليم الجنوبية او امتدادات القبائل المعنية في باقي المجالات الترابية خاصة بجهة كلميم وادنون للمساهمة في تنمية الاقليم وادارة شؤونهم عبر المؤسسات المنتخبة، فمبادئ الديمقراطية والمواطنة الحديثة تقتضي ضمان حقوق المشاركة السياسية لجميع المقيمين الشرعيين.

ولكن في مقابل ذلك يجب التمييز بوضوح بين الحق التاريخي والقانوني في تقرير المصير المرتبط بسياق يعود بالأساس للسكان الأصليين المحددين في الإحصاء المذكور، وبين آليات الممارسة الديمقراطية اليومية للحكم الذاتي وتدبير الشأن المحلي في المستقبل، والتي يمكن أن تشمل مشاركة أوسع للمقيمين الحاليين وفق ضوابط قانونية واضحة، حيث يجب أن يضمن نظام الحكم الذاتي التوازن الدقيق بين احترام الحقوق التاريخية الراسخة للسكان الصحراويين الأصليين ودورهم المحوري، وبين متطلبات الحكامة الديمقراطية والفعالة التي تشمل جميع مكونات المجتمع المحلي المقيم بصفة قانونية، مع الحرص المطلق على عدم تكرار محاولات الجزائر لتغيير التركيبة الديموغرافية للإقليم بشكل مصطنع من خلال استقدام سكان من خارج منطقة النزاع المحددة، لإن احترام هذه المبادئ هو الكفيل الوحيد بضمان حل عادل ودائم يحترم القانون الدولي ويستجيب لتطلعات السكان المعنيين الحقيقيين.

 

 

المدخل المرتبط بتأهيل النخب الصحراوية: بناء القدرات المؤسسية والبشرية وتمكين القيادات المحلية

 

بادئ ذي بدء يعتمد نجاح أي تجربة للحكم الذاتي، بشكل حاسم، على مدى توفر وجاهزية وكفاءة النخب المحلية (السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) لتولي المسؤوليات الجسيمة والمعقدة التي ستناط بها في تسيير شؤون الجهة المتمتعة بالحكم الذاتي، فالغاية الأساسية من الحكم الذاتي ليست مجرد نقل الصلاحيات شكلياً من المركز إلى الجهة، بل هي تمكين فعلي وحقيقي للساكنة المحلية، عبر ممثليها ونخبها، من تدبير أمورها بنفسها، واتخاذ القرارات التي تهم مستقبلها، وتنفيذ السياسات والبرامج التي تستجيب لاحتياجاتها وتطلعاتها.

و تأسيساً على هذا يتطلب الامر بالضرورة وجود كوادر وقيادات محلية مؤهلة ومتمكنة ومستعدة لتسلم زمام المبادرة في مختلف المجالات التي ستحتويها الصلاحيات الواسعة للحكم الذاتي، والتي قد تشمل كما هو مقترح في المبادرة المغربية، مجالات التشريع المحلي، والتنفيذ الحكومي الجهوي، والتخطيط الاستراتيجي، وإدارة الميزانية والمالية المحلية، وتدبير الموارد البشرية الجهوية، وتطوير البنيات التحتية، وإدارة القطاعات الاجتماعية، وتعزيز الثقافة المحلية، وحتى نسج علاقات تعاون خارجية في مجالات محددة، مما يجعل تأهيل النخب الصحراوية وبناء القدرات المؤسسية والبشرية على المستوى الجهوي مدخلاً حيوياً يواكب عملية التنزيل التدريجي للحكم الذاتي ويتضمن هذا التأهيل أبعاداً متعددة نذكر منها:

التأهيل السياسي، الذي يهدف إلى تمكين المنتخبين المحليين والفاعلين السياسيين من فهم أعمق لمبادئ الحكم الذاتي، وآليات عمل المؤسسات الديمقراطية (البرلمان والحكومة الجهويين)، وتقنيات التفاوض وصنع السياسات العامة، وقواعد الحكامة الجيدة والشفافية والمساءلة،

اشهار وسط المقالات

التأهيل الإداري والقانوني، الذي يستهدف الأطر والموظفين الإداريين المحليين لتزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة لإدارة الإدارات والمرافق العمومية الجهوية بكفاءة وفعالية، وفهم الإطار القانوني المنظم لصلاحيات الجهة وعلاقتها بالمركز، وإتقان تقنيات التدبير الإداري الحديث (التخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة).

التأهيل التقني والقطاعي، الذي يركز على تكوين خبراء وأخصائيين محليين في مجالات حيوية للتنمية الجهوية، مثل التخطيط الاستراتيجي والتنمية الترابية، والهندسة المالية وإدارة الميزانيات، وإدارة المشاريع الكبرى، وتدبير الموارد الطبيعية (المياه، الطاقة، البيئة)، وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، والتسويق الترابي وجذب الاستثمارات.

التأهيل القيادي وتنمية المهارات الناعمة، الذي يسعى إلى تنمية مهارات القيادة والتواصل الفعال والتفاوض وحل النزاعات لدى الشخصيات التي ستتولى المناصب العليا والمسؤوليات القيادية في هيئات الحكم الذاتي، وتعزيز قدرتها على تعبئة الموارد وتحفيز الفرق وبناء الشراكات.

وقد بدأ المغرب بالفعل في الاستثمار في الرأسمال البشري من خلال برامج متنوعة للتكوين المستمر ودعم الكفاءات المحلية في الأقاليم الجنوبية، وتشجيع مشاركة الشباب والنساء في الحياة السياسية والاقتصادية والجمعوية، وإتاحة الفرص للكفاءات الصحراوية لتولي مناصب المسؤولية على المستوى المحلي والجهوي والوطني، ومع ذلك فإن متطلبات تنزيل نظام حكم ذاتي موسع تتطلب تكثيف هذه الجهود بشكل كبير، ووضع خطة وطنية متكاملة وطموحة لبناء القدرات (Capacity Building Plan) تستهدف مختلف الفئات المعنية، وتعتمد على مناهج حديثة، وتستفيد من الخبرات الوطنية والدولية المتخصصة في مجال اللامركزية والحكم الذاتي وبناء قدرات الإدارة المحلية.

بيد أن تصميم هذه الخطة يجب أن يتم بشكل تشاركي مع الفاعلين المحليين لتحديد الاحتياجات بدقة، وأن توفر برامج تكوينية نظرية وعملية، بما في ذلك التدريب الميداني وتبادل الخبرات مع جهات أخرى داخل المغرب وخارجه، كما يجب أن يهدف هذا التأهيل ليس فقط إلى نقل المعرفة والمهارات التقنية، بل أيضاً وبشكل أساسي إلى ترسيخ قيم المسؤولية والنزاهة والشفافية والمصلحة العامة والخدمة العمومية لدى النخب المحلية التي ستتحمل أمانة تدبير شؤون الجهة.

ولا شك إن نظام للحكم الذاتي، مهما كانت أسسه الدستورية والقانونية متينة، يعتمد بشكل حاسم ومباشر على مدى توفر وجاهزية وكفاءة النخب المحلية التي ستناط بها مسؤولية تسيير وإدارة شؤون الجهة المتمتعة بهذا النظام، فالغاية الجوهرية من الحكم الذاتي تتجاوز مجرد نقل الصلاحيات الإدارية أو التشريعية من المركز إلى المحيط؛ إنها تهدف بالأساس إلى تمكين فعلي وحقيقي للسكان المحليين، من خلال نخبهم وقياداتهم المنتخبة والمعينة، من ممارسة “التدبير الحر” لشؤونهم، واتخاذ القرارات التي تلامس واقعهم وتستجيب لتطلعاتهم، وتنفيذ السياسات والبرامج التنموية بكفاءة ومسؤولية، وذلك ضمن إطار السيادة الوطنية والوحدة الترابية.

وهذا يتطلب، بشكل حتمي، وجود كوادر بشرية وقيادات محلية مؤهلة ومتمكنة علمياً وعملياً، ومستعدة لتولي المسؤوليات الجسيمة والمعقدة التي ستشملها الصلاحيات الواسعة لنظام الحكم الذاتي المقترح، والتي تمس السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، والقضائية على المستوى الجهوي.

وفي هذا الإطار يكتسي تأهيل الكفاءات لتولي مهام السلطة القضائية الجهوية أهمية بالغة، لضمان سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات داخل الجهة، وتجدر الإشارة إلى أن المبادرة المغربية قد نصت على إنشاء محاكم جهوية (الفقرة 22 و 23)، مما يستدعي إعداد قضاة وأطر قضائية مؤهلة لتشغيل هذه المحاكم، وهنا، يبرز دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كهيئة دستورية ضامنة لاستقلال القضاء، في الاضطلاع بمهمة اساسية تتمثل في استقطاب الكفاءات القانونية والقضائية من أبناء الأقاليم الجنوبية وتأهيلها وتكوينها بشكل متخصص لتولي مختلف مهام ومناصب السلطة القضائية في إطار الحكم الذاتي (قضاة حكم، قضاة نيابة عامة، قضاة تحقيق، كتاب ضبط، مساعدو قضاء، إلخ)، ومما يسهل هذه المهمة، التوفر الملحوظ والكثير لهذه الكفاءات القانونية الصحراوية داخل هياكل وزارة العدل الحالية وفي مختلف أسلاك المهن القضائية والقانونية الأخرى.

أخذاً في الاعتبار ما سبق فإن استثمار هذه الطاقات البشرية وتأهيلها بشكل جيد سيضمن قيام قضاء جهوي مستقل، كفء، ونزيه، قريب من المتقاضين، وملم بخصوصيات المنطقة وأعرافها، وقادر على تطبيق القانون بروح العدل والإنصاف، مما يعزز ثقة المواطنين في نظام الحكم الذاتي برمته.

وفي سياق متصل على صعيد السلطة التنفيذية الجهوية، التي ستكون مسؤولة عن تنفيذ القوانين والسياسات الجهوية وتدبير الإدارة والمرافق العمومية المحلية، فإن تأهيل الأطر الإدارية والتقنية يعد شرطاً أساسياً لفعاليتها، ولا يقتصر هذا التأهيل على التكوين المستمر فحسب، بل يجب أن يشمل أيضاً، وكخطوة استباقية وتحضيرية مهمة، قيام السلطة التنفيذية المركزية (الحكومة) بتبني سياسة واضحة وممنهجة لتعيين وتوظيف الأطر الإدارية الكفؤة من أبناء الأقاليم الجنوبية في مناصب المسؤولية داخل الإدارات المركزية نفسها، لا سيما في مواقع حساسة كالمديريات المركزية ومناصب الكتابة العامة بالوزارات.

إن هذه المقاربة لا تهدف فقط إلى تعزيز التمثيلية الجهوية داخل دواليب الدولة المركزية، بل تهدف بالأساس إلى إكساب هذه الأطر تجربة عملية غنية ومعمقة في تدبير الشأن العام على المستوى الوطني، واطلاعها على آليات صنع القرار وتنسيق السياسات القطاعية.

وعليه تبرز ضرورة حتمية أن تعمل وزارة الداخلية بشكل خاص على تأهيل أطرها الصحراوية التي تزخر بها هياكلها المركزية والترابية، وذلك لتمكينهم من تولي المهام القيادية في الإدارة الترابية، كمناصب العمال والولاة لإن تنزيل الحكم الذاتي يقتضي بشكل ملح ترقية الأطر الصحراوية الكثيرة التي تزخر بها الوزارة وإعطاء أولوية قصوى لهذه الخطوة لما لها من أهمية بالغة في هذه المرحلة الحاسمة، لضمان أن تكون الإدارة الترابية، كممثل للسلطة المركزية وضامن لتطبيق القانون، تحت قيادة أبناء المنطقة العارفين بخصوصياتها، مما يسهل التنسيق ويعزز الثقة المتبادلة، وهذا التأهيل المسبق سيمكنهم من تولي المهام القيادية في هياكل السلطة التنفيذية لجهة الحكم الذاتي المستقبلية (الحكومة الجهوية وإداراتها) بكفاءة واقتدار، مما يضمن انتقالاً سلساً وفعالاً للسلطات التنفيذية.

فضلاً عن ما تقدم فإن ضمان الأمن الداخلي يمثل بدوره ركيزة أساسية لاستقرار ونجاح تجربة الحكم الذاتي، وهنا تبرز ضرورة قيام الإدارة العامة للأمن الوطني بتبني استراتيجية استباقية لترقية وتكوين الأطر الأمنية العليا والمتوسطة من أبناء الأقاليم الجنوبية، مع التركيز على تأهيلهم لتولي المسؤوليات القيادية في مجال الأمن على المستوى الجهوي، بما يسمح إعدادهم لتولي مهام ولاة الأمن، وعمداء الشرطة بمختلف رتبهم، وضباط الأمن، القادرين على قيادة وإدارة جهاز الشرطة المحلية الذي سيتم إنشاؤه بموجب نظام الحكم الذاتي، بالإضافة إلى المساهمة الفعالة في باقي هياكل الأجهزة الأمنية العاملة بالجهة، حيث إن وجود قيادات أمنية محلية كفؤة، متدربة، وملمة بالواقع الاجتماعي والثقافي للمنطقة، سيعزز من فعالية العمل الأمني، ويقوي علاقة الثقة بين جهاز الأمن والمواطنين، ويضمن تطبيق القانون وحفظ النظام العام بطريقة تحترم الحقوق والحريات وتراعي الخصوصيات المحلية، وهو أمر حيوي لترسيخ الشعور بالأمن والاستقرار لدى الساكنة.

وفي منحى متصل فانه عندما يتعلق الامر بالسلطة التشريعية الجهوية (البرلمان الجهوي)، فإن الوضع يبدو أكثر تقدماً وجاهزية نسبياً، فقد أفرزت الممارسة الديمقراطية والانتخابية في الأقاليم الجنوبية على مدى العقود الماضية، سواء على مستوى المجالس الجماعية والإقليمية والجهوية أو على مستوى التمثيلية في البرلمان الوطني بغرفتيه، نخباً سياسية ومنتخبة تتمتع بتجربة متميزة وكفاءة مشهودة في تدبير الشأن العام والعمل البرلماني والتشريعي، وتتميز هذه النخب بكونها مختلطة ومتنوعة، حيث تجمع بين النخب التقليدية (شيوخ القبائل والأعيان) التي تحظى بشرعية تاريخية ومعرفة عميقة بالمجتمع المحلي، وبين النخب الجديدة من الأطر الشابة والمتعلمة والنساء والفاعلين الاقتصاديين والمدنيين الذين يمثلون الدينامية الحديثة للمجتمع.

ولعل هذا المزيج الغني من الخبرة التقليدية والكفاءة الحديثة، ومن الشرعية التاريخية والشرعية الديمقراطية، يشكل رصيداً هاماً يؤهل السلطة التشريعية الجهوية المستقبلية للقيام بمهامها في التشريع المحلي والرقابة على الحكومة الجهوية وتمثيل مصالح سكان المنطقة بفعالية ومسؤولية، ومع ذلك، يبقى من الضروري مواصلة دعم وتطوير قدرات هذه النخب المنتخبة من خلال برامج تكوينية متخصصة في تقنيات التشريع والرقابة البرلمانية وتقييم السياسات العمومية.

وصفوة القول إن الاستثمار التدريجي الممنهج في تأهيل النخب الصحراوية عبر هذه المداخل المتخصصة للسلطات الثلاث (القضائية، التنفيذية، التشريعية)، بالإضافة إلى التأهيل العام في مجالات القيادة والتخطيط والحكامة وللأدوار القيادية في مجالات الأمن والإدارة الترابية، لا يمثل فقط ضرورة تقنية لضمان حسن سير مؤسسات الحكم الذاتي، بل هو أيضاً تعبير سياسي قوي عن الثقة في قدرات أبناء المنطقة، والتزام فعلي بتمكينهم من تدبير شؤونهم بأنفسهم، وتجسيد عملي لجوهر مشروع الحكم الذاتي كإطار ديمقراطي وتنموي يهدف إلى تحقيق الرفاه والكرامة لجميع سكان الصحراء في ظل السيادة المغربية والوحدة الوطنية بما يعزز اندماجها وتطورها في إطار مغرب موحد ومتقدم.

وبالتالي فالرهان على وجود نخبة صحراوية مؤهلة، كفؤة، وطنية، ملتزمة بقيم الديمقراطية والحكامة الجيدة، ومؤمنة بمشروع الحكم الذاتي كإطار للتقدم والازدهار ضمن السيادة المغربية، هو الضمانة الأساسية لتحويل هذا المشروع من مجرد نص قانوني أو اتفاق سياسي إلى ممارسة على ارض الواقع.

يمكنكم مشاركة المقال على منصتكم المفضلة
اترك تعليقا