المغرب في عهد الملك محمد السادس رهانات الدولة الاجتماعية وتعزيز النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي.

اشهار بداية المقال

منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش في 30 يوليوز 1999، دخل المغرب مرحلة جديدة من تاريخه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تميزت برؤية إصلاحية وتنموية متكاملة. فمنذ خطاب جلالته الأول، أكد الملك عزمه على مواصلة مسيرة البناء والنماء لفائدة جميع فئات الشعب، مع إيلاء اهتمام خاص للفئات الهشة والمحرومة. وبعد مرور 26عاما من توليه عرش أسلافه المنعمين، تكشف الحصيلة التنموية للمملكة عن تحولات عميقة تعكس توجهًا استراتيجيًا نحو ترسيخ الدولة الاجتماعية، إلى جانب إنجازات اقتصادية ودبلوماسية عززت مكانة المغرب في محيطه الإقليمي والدولي.

الدولة الاجتماعية: ورش استراتيجي لتحقيق العدالة المجالية

أولى الملك محمد السادس أهمية قصوى للبعد الاجتماعي، باعتباره أساس أي مشروع تنموي مستدام. وكان إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 محطة بارزة في هذا المسار، إذ استهدفت محاربة الفقر والهشاشة، وتمكين الفئات الهشة من فرص اقتصادية واجتماعية أفضل، مع التركيز على دعم المشاريع المدرة للدخل وتحسين البنية التحتية في القرى والمناطق النائية.

شكل خطاب العرش لسنة 2020، والدستور المغربي لسنة 2011 الذي نص في فصله 31 على الحق في الحصول على الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية. يندرج هذا الورش ضمن رؤية شاملة تهدف إلى إعادة صياغة أسس العدالة الاجتماعية والمجالية، من خلال تعميم التغطية الصحية، وتحسين أنظمة التقاعد، وتعزيز آليات الدعم الاجتماعي المباشر، بما يضمن كرامة المواطن ويكرس مبدأ المساواة في الولوج إلى الخدمات الأساسية.

وقد اتخذت الدولة جملة من التدابير التشريعية والتنظيمية لوضع إطار قانوني متكامل يتيح تنزيل هذه الإصلاحات على أرض الواقع، بما يشمل إصدار قوانين ومراسيم تؤطر التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، آليات التسجيل والاستفادة، وطرق تمويل النظام، إضافة إلى إصلاحات مرتبطة بالتقاعد والدعم الاجتماعي الموجه للفئات الهشة.

ويرتكز مشروع الحماية الاجتماعية على حزمة من القوانين والمراسيم التي تشكل الأساس القانوني لتفعيله:

• القانون الإطار رقم 09.21 المتعلق بالحماية الاجتماعية، والذي يحدد المبادئ العامة لإصلاح هذا القطاع، بما في ذلك تعميم التغطية الصحية، توسيع الاستفادة من التعويضات العائلية، وتعميم الاستفادة من معاش التقاعد وتعويض فقدان الشغل.

• القانون رقم 98.15 المتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء، والذي مكّن من إدماج ملايين العاملين في القطاع غير المهيكل ضمن منظومة التغطية الصحية.

• القانون رقم 65.00 بمثابة مدونة التغطية الصحية الأساسية، الذي يشكل المرجعية التشريعية العامة للتأمين الصحي الإجباري في المغرب، ويحدد الفئات المستفيدة، والجهات المدبرة، وآليات تمويل النظام.

ويشكل تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض (AMO) أحد المرتكزات الجوهرية في ورش الحماية الاجتماعية بالمغرب، إذ يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق مبدأ المساواة في الولوج إلى الخدمات الصحية وتكريس الحق الدستوري في الرعاية الصحية، المنصوص عليه في الفصل 31 من دستور 2011. ويهدف هذا الإجراء إلى ضمان تغطية صحية شاملة لجميع المواطنين، بمن فيهم الفئات الهشة والعاملين في القطاع غير المهيكل، الذين كانوا في السابق خارج منظومة الحماية الصحية الرسمية.

تكمن أهمية هذا الورش في كونه أداة مركزية لإعادة هيكلة النظام الصحي والاجتماعي بالمغرب، من خلال:

• تعزيز العدالة الاجتماعية عبر تمكين الفئات الأقل دخلاً من الاستفادة من خدمات علاجية متكافئة مع باقي الفئات، بتمويل جزئي أو كامل تتحمله الدولة.

• تقليص الفوارق المجالية في الولوج إلى الخدمات الصحية من خلال توسيع شبكة التغطية لتشمل سكان القرى والمناطق النائية، مع تحسين البنية التحتية الصحية العمومية.

• إرساء مقاربة وقائية تقلل من النفقات الصحية المستقبلية على الدولة والأفراد عبر الكشف المبكر والعلاج المنتظم للأمراض.

• تحقيق الاستدامة المالية للنظام الصحي عبر توسيع قاعدة المساهمين في الصناديق الاجتماعية، بما في ذلك إدماج العاملين في القطاع غير المهيكل وأصحاب المهن الحرة ضمن النظام.

اشهار وسط المقالات

على المستوى القانوني، أسهمت المراسيم التطبيقية 2.22.797 و2.23.866 و2.22.923 في وضع إطار عملي واضح لتسجيل الفئات المستهدفة، وتحديد آليات تمويل النظام، وضبط كيفية تحمل التكاليف الصحية. هذه المنظومة القانونية والتنظيمية عززت فعالية تنزيل المشروع، ووفرت آليات لضمان شفافية وفعالية عملية التعميم.

ويُعد هذا الورش حجر الأساس لتفعيل باقي الإصلاحات الاجتماعية، إذ لا يمكن تحقيق إصلاحات التقاعد أو نظام الدعم المباشر دون قاعدة صلبة تضمن الرعاية الصحية كحق اجتماعي أساسي.

إصلاحات اقتصادية وتنويع الشركاء

شهد الاقتصاد المغربي خلال السنوات 26من حكم العاهل الملكي محمد السادس تحولات بنيوية عميقة جعلته أكثر تنوعًا وانفتاحًا على الأسواق العالمية، بفضل سياسات اقتصادية واستثمارية قائمة على التخطيط الاستراتيجي وتعبئة الموارد الداخلية والخارجية. فقد تم إنجاز مشاريع ضخمة في مجال البنية التحتية، يأتي في مقدمتها ميناء طنجة المتوسط، الذي تحول إلى واحدة من أكبر المنصات اللوجستية على الصعيد العالمي، حيث يحتل مراتب متقدمة في حركة الحاويات والربط البحري، مما جعله بوابة محورية للتجارة بين أوروبا وإفريقيا وأمريكا. كما توسعت شبكة الطرق السيارة لتغطي مختلف الجهات، مما عزز الترابط الاقتصادي بين المدن والمناطق الصناعية. وفي مجال النقل السككي، شكل إطلاق القطار فائق السرعة “البراق” نقلة نوعية في منظومة النقل الحديثة، إذ جعل المغرب أول دولة إفريقية تتوفر على هذه التقنية، مع ما لذلك من انعكاسات على تسهيل التنقل وتحفيز الاستثمارات السياحية والصناعية.

وفي إطار الانتقال نحو اقتصاد مستدام، أولت المملكة اهتمامًا استراتيجيًا لمجال الطاقات المتجددة، حيث أطلقت مشاريع رائدة مثل مجمع “نور ورزازات” للطاقة الشمسية، الذي يعد من أكبر المشاريع في العالم في هذا المجال، إلى جانب مشاريع طاقة الرياح في مدن طرفاية والعيون وطنجة. وقد مكّن هذا التوجه المغرب من تقليص اعتماده على مصادر الطاقة الأحفورية، والتموقع كفاعل إقليمي رائد في مجال التحول الطاقي، مع استهداف رفع نسبة الطاقات المتجددة في المزيج الطاقي الوطني إلى أكثر من 50% في أفق 2030.

وتوازيًا مع ذلك، انتهج المغرب سياسة نشطة لتنويع شركائه الاقتصاديين، من خلال الانفتاح على أسواق جديدة في إفريقيا جنوب الصحراء عبر استثمارات ضخمة للبنوك وشركات الاتصالات والعقار في بلدان مثل السنغال وكوت ديفوار ومالي. كما وسّع تعاونه التجاري والاستثماري مع دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والشيلي، ومع القوى الآسيوية الصاعدة كالصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان، إلى جانب تعزيز شراكاته التقليدية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد جعل هذا الانفتاح من المغرب مركزًا اقتصاديًا إقليميًا وقاريًا قادرًا على لعب دور همزة وصل بين إفريقيا وأوروبا، مستفيدًا من موقعه الجغرافي الاستراتيجي واستقراره السياسي والإصلاحات الاقتصادية الكبرى التي أطلقت خلال العقدين الأخيرين.

الدبلوماسية الفاعلة والدفاع عن القضية الوطنية

استطاعت المملكة المغربية أن تكرّس موقعها كفاعل دبلوماسي مؤثر على المستويين الإقليمي والدولي، محققة سلسلة من النجاحات الملموسة التي تعكس نجاعة الرؤية الاستراتيجية التي أرسى دعائمها الملك محمد السادس، والقائمة على سياسة الوضوح والطموح والانفتاح على شركاء متعددين. فقد تبنى المغرب نهجًا دبلوماسيًا نشطًا يقوم على تنويع التحالفات والشراكات الدولية، حيث عزز علاقاته التقليدية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته فتح آفاقًا جديدة للتعاون مع القوى الصاعدة في آسيا، مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية، ومع بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء، ما مكنه من ترسيخ حضوره على الساحة العالمية وتوسيع هامش المناورة الدبلوماسية لحماية مصالحه الوطنية.

وقد شكل الدفاع عن القضية الوطنية المتعلقة بالصحراء المغربية العمود الفقري لهذه التحركات، إذ كثفت المملكة جهودها الدبلوماسية لتأكيد سيادتها على أقاليمها الجنوبية، مستفيدة من الزخم الذي وفرته الاعترافات المتزايدة بمغربية الصحراء، وفتح القنصليات العامة لعدد متنامٍ من الدول في مدينتي العيون والداخلة. كما عمل المغرب على تعزيز حضوره في المنظمات الإقليمية والدولية، مستثمرًا عودته القوية إلى الاتحاد الإفريقي، ومشاركته الفاعلة في المحافل الأممية للدفاع عن طرحه المتوافق مع الشرعية الدولية والمبادرة المغربية للحكم الذاتي.

وفي الوقت نفسه، أولت المملكة أهمية كبيرة لتقوية إشعاعها الدولي، من خلال المشاركة النشطة في القمم العالمية المتعلقة بالتغير المناخي والتنمية المستدامة والأمن الإقليمي، إضافة إلى إطلاق مبادرات استراتيجية مثل المبادرة الأطلسية لدول الساحل، التي تبرز الدور الريادي للمغرب في تعزيز التعاون جنوب-جنوب وتحقيق التكامل الإفريقي. وقد ساعدت هذه المبادرات في ترسيخ صورة المغرب كدولة موثوقة وفاعلة في حل النزاعات الإقليمية، وإرساء الاستقرار في محيطها الإقليمي، خاصة في الساحل والصحراء وغرب إفريقيا.

إلى جانب ذلك، ركزت السياسة الخارجية المغربية على تحصين المصالح الاستراتيجية للمملكة في مجالات الطاقة والغذاء والماء والأمن الحدودي، مستفيدة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومن مشاريع كبرى مثل تطوير الطاقات المتجددة، وبناء شراكات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي وإفريقيا والشرق الأوسط. كما انعكست هذه الدينامية على المكانة الدولية للمغرب الذي أصبح ينظر إليه كجسر بين إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، وكقوة إقليمية صاعدة تجمع بين الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي والدور الوسيط في القضايا الدولية.

تُظهر هذه الإنجازات أن المغرب، في عهد الملك محمد السادس، تبنى نموذجًا يجمع بين بناء الدولة الاجتماعية وتحفيز الاقتصاد الوطني عبر تنويع الشركاء وتعزيز القطاعات الإنتاجية، إلى جانب دبلوماسية نشطة عززت من إشعاع المملكة الدولي. ورغم التحديات العالمية المتمثلة في الأزمات الاقتصادية والحروب والأوبئة، استطاع المغرب أن يحقق تحولًا استراتيجيًا جعل منه فاعلًا مؤثرًا في محيطه الإقليمي والدولي

.

أمال محسن باحثة بسلك الدكتوراة مختبر السياسات الدولية والدستورية وتحليل الازمات جامعة القاضي عياض بمراكش وعضو المرصد الوطني للدراسات الاستراتيجية

 

يمكنكم مشاركة المقال على منصتكم المفضلة

للتوصل بمستجدات الموقع كل يوم على بريدكم الالكتروني المرجو التسجيل في نشرتنا البريدية.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. نفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا رغبت في ذلك. قبولقراءة المزيد