رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقرطية : المقصود بمصطلح ” نظام حكم ذاتي حقيقي” ممارسة فعلية للسلطة من قبل سكان الإقليم عبر مؤسساتهم وتدبير شؤونهم بأنفسهم

حوار : علي الأنصاري

نشر الدكتور مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقرطية  مؤخرا دراسة من جزئين  حول مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء ، اشار فيها الى ديناميكية متسارعة التي   عرفها الملف في الشهور القليلة الأخيرة على الصعيدين الدبلوماسي والأممي، ألقت بظلالها على مسار البحث عن حل سياسي دائم ومقبول من الأطراف، حيث أبرز المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، ملامح هذا السياق المتغير، مشيراً إلى تطورين ثنائيين بارزين: المحادثات المغربية-الأمريكية رفيعة المستوى في واشنطن، والاتصالات الفرنسية-الجزائرية في الجزائر.

واوضح  أن من الثابت أنه ورغم أن هذين التحركين، الصادرين عن دولتين فاعلتين ودائمتي العضوية في مجلس الأمن، يعكسان “اهتماماً متجدداً بالفرص والمخاطر” في المنطقة، إلا أنه في نفس الوقت لا ينفي وجود قلق أممي إزاء استمرار بل وتفاقم التوتر في العلاقات بين المغرب والجزائر والتي اعتبر دي ميستورا تحسنها “شرطاً أساسياً لتفادي مخاطر اندلاع نزاع إقليمي” سيكون ذا تداعيات وخيمة على الاستقرار الإقليمي وعلى البيئة التي تسعى فيها الأمم المتحدة لتيسير الحل السياسي.

وفي قلب هذه الديناميكية، بحسب  رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقرطية برزت ثلاث رسائل مركزية نقلها المبعوث الأممي عن الإدارة الأمريكية، والتي لربما تحدد لنا بعض ملامح مقاربة واشنطن للملف بل وتعكس توجهات دولية أوسع، أولى هذه الرسائل هو ضرورة أن يكون أي نظام الحكم الذاتي المقترح “حقيقياً”  (Genuine)، مما يستدعي، وفقاً لدي ميستورا، الحاجة الى جهود مغربية لتقديم “توضيحات أكثر تفصيلاً” للآليات العملية للمبادرة المغربية للحكم الذاتي وصلاحياتها الملموسة، وثانياً التأكيد على مبدأ “الحل المقبول من الطرفين”   (Mutually Acceptable Solution)، مع الإشارة إلى أن تحقيقه يتطلب “مفاوضات فعلية” يجب أن تشمل “في الوقت المناسب، شكلاً موثوقاً من أشكال تقرير المصير”، وهي صياغة تفتح نقاشاً حول كيفية ممارسة هذا الحق ضمن إطار الحكم الذاتي المتفاوض عليه، وثالثاً وأخيرا إعلان الإدارة الأمريكية عن عزمها “الانخراط مباشرة في تسهيل التوصل إلى حل متفق عليه”، وهو ما قد يمثل قوة دفع جديدة للمسار الأممي، خاصة مع تزامن ذلك مع الذكرى الخمسين عام 2025، لإدراج القضية في المسار الأممي مما يضفي “إحساساً بالإلحاح” دائما وفق تعبير المبعوث الاممي.

في مستهل هذا التحليل وضمن هذا المشهد الدولي والإقليمي المعقد، يؤكد رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقرطية أن “المبادرة المغربية للتفاوض بشأن نظام حكم ذاتي لجهة الصحراء”، المقدمة رسمياً سنة 2007، الخيار السياسي الأكثر بروزاً وجدية على طاولة المفاوضات، حيث حظيت باعتراف متكرر من مجلس الأمن بوصفها أساساً “جاداً وذا مصداقية” للتوصل إلى حل، لكون هذه المبادرة تستند إلى فهم معاصر لمفهوم “الحكم الذاتي” والذي تطور بشكل كبير في القانون الدولي والممارسة السياسية.

الدراسة القيمة للدكتور مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقرطية استعرض مداخل عدة لتنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء انطلاقا من المدخل الدبلوماسي:بناء التوافق وتوسيع دائرة الاعتراف  والمدخل السياسي المتجسد في بناء الإجماع الوطني وتعزيز الديمقراطية المحلية، وتمكين المشاركة والمدخل الدستوري والقانوني والمتمثل في التأطير المعياري و ضمان الانسجام الهرمي، وتوفير الاستقرار المؤسسي والمدخل التنموي والذي  يعبر عنه النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية كرافعة للجاذبية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي.

وكذا المدخل الثقافي الخاص بتثمين الهوية الحسانية كرافد أساسي للهوية الوطنية المتعددة والمدخل الحقوقي المرتبط بضمان الكرامة وتعزيز الحريات وترسيخ سيادة القانون والمدخل المرتبط بالمصالحة وتجاوز إرث الماضي، بناء الثقة، وتأسيس العيش المشترك اضافة الى المدخل المرتبط بالهيئة الناخبة وإشكالية التحديد بين الحق التاريخي ومتطلبات الحل السياسي والمدخل المرتبط بتأهيل النخب الصحراوية وبناء القدرات المؤسسية والبشرية وتمكين القيادات المحلية والمدخل الإجرائي وبناء الثقة، إدارة التعقيد، وتحقيق الواقعية

وخلص الى إن تنزيل المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء يمثل، في جوهره، مشروعاً سياسياً وقانونياً ومجتمعياً وتنموياً طموحاً ومعقداً، يتطلب تجاوز المقاربات الأحادية أو الجزئية نحو تفعيل مقاربة استراتيجية شمولية ومتعددة الأبعاد، تستند إلى تفعيل متزامن ومتناسق لمجموعة من المداخل المترابطة.

في الحوار التالي الذي خص به مولاي بوبكر حمداني رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية جريدة الحركة يلقي الضوء على بعض المفاهيم والاجراءات التي وردت في دراسته:

* نظام حكم ذاتي حقيقي، ماذا يعني؟

**نظام الحكم الذاتي الحقيقي هو ترتيب دستوري وقانوني يمنح إقليمًا معينًا صلاحيات واسعة ومحددة في مجالات التشريع والتنفيذ والقضاء، تمكنه من إدارة شؤونه الداخلية باستقلالية كبيرة عن السلطة المركزية، يشمل ذلك نقلًا جوهريًا للسلطات لا يقتصر على الجوانب الإدارية، بل يمتد لمجالات حيوية كالتنمية الاقتصادية، والثقافة، والتعليم، كما يتضمن وجود مؤسسات ديمقراطية محلية منتخبة، واستقلالية مالية وإدارية، وحماية للهوية والخصوصيات المحلية، مع احتفاظ الدولة المركزية بالصلاحيات السيادية كالدفاع والشؤون الخارجية.

والمقصود بمصطلح “حقيقي” هنا يعني أن الحكم الذاتي ليس مجرد اجراء شكلي، بل هو ممارسة فعلية للسلطة من قبل سكان الإقليم عبر مؤسساتهم وتدبير شؤونهم بأنفسهم، بضمانات دولية ورعاية اممية ورقابة لمجلس الأمن اثناء التطبيق.

* هل من أمثلة عن أنواع حكم ذاتي، وأيها أصلح للمغرب؟

**تتعدد نماذج الحكم الذاتي عالميًا، منها ما هو إقليمي يُمنح لمنطقة جغرافية محددة، ومنها ما هو شخصي أو ثقافي يُمنح لمجموعة معينة بغض النظر عن تمركزها الجغرافي، بالنسبة للمغرب في سياق الصحراء، تطرح المبادرة المغربية تصورًا يهدف إلى أن يكون نموذجًا خاصًا، يستلهم من التجارب الدولية الناجحة مع تكييفها لتلائم خصوصيات المنطقة ومتطلبات الأمن والاستقرار، وضمن إطار السيادة المغربية، وفي اعتقادي لا يوجد قالب جاهز للاستنساخ، فالنجاح يكمن في تصميم نظام يستجيب لتطلعات السكان المحليين ويحظى بقبول الأطراف المعنية ويتوافق مع المعايير الدولية، والمفتاح هو التفاوض على تفاصيل هذا النموذج لضمان فعاليته ومصداقيته، و “المبادرة المغربية للتفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء” التي قدمتها المملكة المغربية استجابةً للدعوات المتكررة لمجلس الأمن الدولي لإنهاء الجمود الراهن وإحراز تقدم نحو حل سياسي، تمثل اليوم مسارًا ديناميكيًا وإيجابيًا يمكن البناء عليه.

اشهار وسط المقالات

* حكم ذاتي، تقرير المصير، تطابق أم تضاد؟

**العلاقة بين الحكم الذاتي ومبدأ تقرير المصير ليست بالضرورة تضادًا، بل يمكن أن تكون تكاملية حيث انه لمبدأ تقرير المصير بعدان: خارجي يتعلق بالحق في الانفصال أو الانضمام لدولة أخرى، وهو مرتبط بسياقات إنهاء الاستعمار والاحتلال أو حالات القمع الشديد، والبعد الآخر داخلي وهو حق الشعوب في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمشاركة في حكم دولتها دون المساس بوحدتها الترابية، والحكم الذاتي الموسع والحقيقي يُعد من أبرز تجليات ممارسة تقرير المصير الداخلي، فهو يتيح لمجموعة سكانية إدارة شؤونها بفعالية مع الحفاظ على انتمائها للدولة الأم.

* مفاوضات فعلية، من مع من؟

**”المفاوضات الفعلية”، كما تدعو إليها قرارات مجلس الأمن، تشير إلى عملية تفاوضية جادة وبحسن نية بهدف التوصل إلى حل سياسي متوافق عليه، الأطراف الرئيسية المعنية بهذه المفاوضات، وفقًا لخطاب الأمم المتحدة، هي المملكة المغربية وجبهة البوليساريو، كما تشير قرارات مجلس الأمن باستمرار إلى دور الدول المجاورة، وتحديدًا الجزائر وموريتانيا، وتشجعهما على المساهمة في العملية السياسية والانخراط بشكل بناء.

* المغرب عبر في السابق عن استعداده لتقديم توضيحات أكثر أثناء المفاوضات؟ وهل حكم ذاتي في المناطق الجنوبية يتطلب تعديلاً دستورياً؟

**فعلا لقد أكدت المملكة المغربية مرارًا استعدادها التام للانخراط في مفاوضات جادة ومتعمقة، وتقديم كافة التوضيحات والتفصيلات اللازمة بشأن مقترحها للحكم الذاتي، والتفاعل بمرونة بناءة، وهذا ما يندرج ضمن التزامها بمبدأ حسن النية في التفاوض، ونتمنى ان تحذو حذوها بقية الأطراف.

وفي نظري بخصوص الجزء الثاني من سؤالكم فإن إقرار نظام حكم ذاتي حقيقي وواسع الصلاحيات في الأقاليم الجنوبية سيتطلب بالضرورة إجراء تعديلات دستورية في المغرب لمنح هذه الصلاحيات ذات الطبيعة الخاصة تشريعية وتنفيذية وقضائية لإقليم معين، وتحديد العلاقة بين مؤسساته والمؤسسات المركزية، والضمانات الدستورية لهذا النظام، فهي كلها أمور تستدعي ترسيخها في أسمى وثيقة قانونية للدولة لضمان استقرارها وديمومتها.

* مفاوضات جدية حول حكم ذاتي حقيقي يحيلنا على سؤال ما هي المعايير القانونية التي يجب أن تتوفر في ممثلي المناطق الجنوبية؟

**الأكيد أن تحديد معايير ممثلي سكان الأقاليم الجنوبية في أي مفاوضات هو مسألة حساسة وتتطلب توافقًا، من منظور القانون والممارسة الدولية، وبالتالي يجب أن يعكس الممثلون التنوع والتطلعات الفعلية للسكان المعنيين بالحكم الذاتي، وأن تستمد شرعيتهم من آليات ديمقراطية أو اعتراف واسع أو عملية تشاورية شاملة مع السعي لإشراك أوسع طيف ممكن من الفاعلين والمكونات المجتمعية، كما يجب أن يمتلكوا التفويض والسلطة اللازمين للتفاوض والالتزام بنتائج المفاوضات من “الهيئة الناخبة” – أي مجموع الأفراد الذين يحق لهم المشاركة في تقرير مستقبل إقليم الصحراء وانتخاب هيئاته التمثيلية في إطار مبادرة الحكم الذاتي – والتي تُعد من أكثر القضايا حساسية وتعقيداً في صلب النزاع، لإن هذه الإشكالية لا تقتصر على كونها مسألة إجرائية تقنية، بل تمس جوهر مبدأ تقرير المصير وتثير تساؤلات قانونية وسياسية وديموغرافية عميقة الجذور من هنا تبرز الأهمية القانونية والتاريخية لإحصاء عام 1974 الإسباني كمرجع لتحديد “النواة الصلبة” للسكان الأصليين للإقليم بناء على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة المادة 73 التي تتناول الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 1514 والقرار 1541 التي استقرت جميعها على أن الحق  في تحديد الوضع السياسي النهائي للإقليم يعود بشكل أساسي الساكنة الأصلية للإقليم كما كان معرفاً وموجوداً في “التاريخ الحاسم” (Critical Date)، وهو عادةً ما يكون لحظة انتهاء السيطرة الاستعمارية أو الفترة التي تسبقها مباشرةً.

* أي دور ستقوم به الجزائر وموريتانيا في حالة تم إطلاق مفاوضات حقيقية حول الحكم الذاتي؟

**للجزائر وموريتانيا كدولتي جوار مباشرتين للنزاع دور محوري في حالة انطلاق مفاوضات حقيقية، حيث يمكن أن يساهما إيجابًا من خلال تيسير المفاوضات، والمشاركة كضامنين لأي اتفاق، وتشجيع الحلول الوسط، والمساهمة في الأمن والاستقرار الإقليمي، وفي هذا الصدد تؤكد قرارات مجلس الأمن على ضرورة انخراطهما بشكل بناء، فتعاونهما الفعلي ضروري لنجاح أي مسار تفاوضي وتحقيق سلام واستقرار دائمين في المنطقة، بما في ذلك استئناف بناء الاتحاد المغاربي.

* أحيانًا، نستحضر بعض المقترحات الأممية السابقة من قبيل الاستفتاء، وحكم ذاتي ينتهي بتنظيم استفتاء، وأيضًا مقترح التقسيم، هل يمكننا الجزم الآن بكون مثل هذه المقترحات انتهت؟

**لقد مر المسار التفاوضي الذي تشرف عليه الأمم المتحدة بمراحل ومقترحات متعددة، بما فيها خطط تضمنت الاستفتاء وخيارات أخرى، إلا أن التركيز الحالي لمجلس الأمن والمجتمع الدولي قد تحول بشكل كبير، منذ تقديم المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي وصفتها قرارات مجلس الأمن المتعاقبة بأنها “جادّة وذات مصداقية”، ودعت الأطراف للتفاوض على أساسها، هذا التحول يعكس إدراكًا لصعوبات تطبيق الخطط السابقة، بينما لا يمكن الجزم المطلق بانتهاء الأفكار السابقة نظريًا، فإن الواقعية السياسية والتوجه الحالي للعملية التي تقودها الأمم المتحدة يشيران بقوة إلى أن الزخم الآن يدور حول إيجاد حل سياسي متفاوض عليه، والمبادرة المغربية للحكم الذاتي هي الأساس الأكثر جدية الوحيد على طاولة المفاوضات، أي أن عودة لخيارات مثل الاستفتاء بشروطه التقليدية أو التقسيم تبدو مستبعدة للغاية في ظل الديناميكيات والمواقف الدولية الراهنة للقوى الكبرى من هذا الملف.

 

يمكنكم مشاركة المقال على منصتكم المفضلة
اترك تعليقا