يهود موريتانيا ..بين الإندثار، و الإنصهار !

تحقيق صحفي ، من إعداد :محمد عبد الرحمن ولد عبدالله

كاتب صحفي ، موريتاني

 

لم يكن الوجود اليهودي غريبًا عن موريتانيا خلال مراحل تاريخها، بل كان انتشارهم لافتًا في المدن الكبرى والمراكز التجارية القديمة؛ إذ تشهد الوثائق على حضورهم في شنقيط و ودان و ولاتة و تيشيت. بل إن التاريخ حفظ لنا حادثة بارزة، حين أصدر الفقيه و القاضي:

محمد يحيى الولاتي الداودي حكمًا قضائيًا لصالح تجار يهود، في دلالة واضحة على انخراطهم في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية آنذاك.

 

غير أن ما يثير الدهشة هو اختفاء هذه الجماعات من أرض الصحراء الموريتانية اختفاءً كاملًا، في ظاهرة ما زالت تحيّر الباحثين. فالمعروف أن اليهود – على امتداد تاريخهم – يتمسكون بنَسَبهم ودينهم، وأن حالات الذوبان الكلي في مجتمعات أخرى نادرة جدًا، بل تكاد تكون غير مسجلة إلا هنا. وهو ما تطرح تساؤلات عميقة: هل كان اندماجًا تدريجيًا قسريًا بفعل التحولات الدينية والاجتماعية؟ أم هجرة منظمة تحت ضغط سياسي واقتصادي؟ أم أن الأمر يتعلق بخصوصية هذه الصحراء المفتوحة التي ابتلعت تاريخًا كاملًا في رمالها؟

ولقد اردنا من خلال هذا التحقيق الصحفي الأول من نوعه في موريتانيا أن نتطرق لهذا الموضوع التاريخي بشكل موسّع، يوثّق ما أمكن توثيقه من حضور اليهود في مدن الصحراء الموريتانية القديمة (شنقيط، وادان، ولاته، تيشيت)، ونبحث في أسباب ذوبانهم، او إختفائهم. بعد إجراء بحث تاريخي معتمدا علي مصادر تاريخية موثوقة. ومع التنبيه الصريح على مواضع اليقين ومواضع الشك.احتراما لمبدأ النزاهة الفكرية.

 

■ مدخل: روايةٌ محلية وحيرةٌ تاريخية

 

تتناقل الذاكرة الموريتانية شواهد على وجود جماعات يهودية—أو “متهوّدة”—في مدن القوافل الصحراوية، لاسيما ولاته، مع روايات عن معاملاتٍ قضائية وتِجارية تخصّهم. لكن حين نحاول تحويل الرواية إلى وثيقةٍ مُحكمة، نصطدم بندرة الشواهد المباشرة من الأرشيف المحلي، وبطبيعة مكتبات الأسر الخاصة التي لم تُفهرَس كلها بعد. والتي لازال بعضها يحتوي اسرار هامة لم تنشر بعد.بسبب حساسيتها ،إذا ما الذي يمكن إثباته اليوم من مصادر مكتوبة؟ وما الذي يظل في حيّز الظن،وزوايا النسيان.؟!

 

■ أولًا: ما الذي نستطيع توثيقه بيقين؟

 

وجود يهود في ولاته وجوارها خلال القرنين 15–16م: دراسةٌ محكّمة لإدريسا با تبحث تحديدًا “استمرارية/انقطاع الحضور اليهودي في ولاته وفي الساحل الإفريقي الغربي من القرن 15 إلى 19”، وتقرّر أن معرفتنا الحالية تقوم على شهادتين رئيسيتين؛ إحداهما منسوبة ليوآو رودريغيش (João Rodrigues)، وتقرن ولاته بوجود جماعات يهودية في ذلك الزمن. هذه الدراسة تمنح الموضوع أساسًا أكاديميًا متينًا، وإن كانت تشدّد على قلّة النصوص المباشرة الباقية بين أيدينا.

 

■ المدن الأربعة كعقدٍ على طريق القوافل:

وضعُ شنقيط ووادان وتيشيت وولاته ضمن شبكة التجارة العابرة للصحراء ثابتٌ في أدبيات اليونسكو والتاريخ الحضري، وهو إطارٌ يفسّر توافد تُجّار ذوي أصولٍ مختلفة (ومنهم اليهود) بحكم الطبيعة الوسيطة لهذه الحواضر.

 

■ السياق الصحراوي الأوسع: طُوات/توات (جنوب الجزائر) مركز ثِقل يهودي ثم تصفيةٌ عنيفة عام 1492م: تُظهر دراساتٌ عن تمنطيط/تامنطيط وواحات توات أن واعظًا هو محمد بن عبد الكريم المغيلي قاد حملةً شرّعت هدم المعبد وقتلت/هجّرت اليهود هناك عام 1492م، وهو تاريخٌ يطابق صدور مرسوم طرد يهود إسبانيا؛ وقد ترتّبت عليه موجات نزوح جنوبًا على محاور القوافل. هذا الحدث يُعدّ نقطة تحوّل كبرى في جغرافيا يهود الصحراء ككل.

 

■ شبكات التجارة: دور سجلمـاسة–تغازة–ولاته: المسار الكلاسيكي من سجلماسة عبر تغازة إلى ولاته مذكور في الأدبيات التاريخية، ويشرح لماذا كانت ولاته محطةً منطقية لتدفّق فئاتٍ مهنية ومن ضمنها تُجار يهود.

 

■ ثانيًا: ماذا عن “الوثيقة القضائية” المنسوبة للولاتي؟

 

تتردّد في السردية المحلية إشارةٌ إلى حُكمٍ قضائي لصالح تُجّارٍ يهود أصدره العلامة القاضي محمد يحيى الولاتي الداودي (ت 1912م). بالبحث في ما هو مُتاح رقمياً من تراجم الولاتي ومؤلفاته وأخبار منصبه القضائي في الحوض وولاته، لا نجد—حتى الآن—نصّ الحكم ذاته أو صورةً معتمدة للوثيقة في الفهارس المتاحة للعامة، وإن كانت المصادر تؤكد مكانته القضائية واشتغاله المكثّف بكتب الوثائق والعقود (مثل شروح على تحفة الحكّام). هذا يجعل “قضية التُجّار اليهود” روايةً محلية بحاجة إلى إخراجٍ وثائقي من مكتبات ولاته الخاصة أو أرشيفات الأسر.

 

■ ثالثًا: كيف ذاب/اختفى هذا الحضور؟!

 

يقدّم المؤرخون أربع عللٍ متضافرة، يمكن تتبّعها في مصادر متنوعة:

 

■ 1. الضربة البنيوية لشبكات اليهود الصحراويين بعد 1492م

إشهار

إشهار

تصفيةُ مجتمع توات اليهودي أغلقت عقدةً تجارية-تمويلية رئيسة في شمال الصحراء، فاهتزّت جسور الارتباط إلى الجنوب (ولاته–تمبكتو). هذا لا يثبت أن كل يهود الصحراء انتقلوا فورًا، لكنه يفسّر انكماشًا سريعًا لحضورهم المؤسسي.

 

■ 2. الإسلام الاجتماعي التدريجي (الأسلمة بالمعاشرة)

تشير دراسات الساحل إلى تديّنٍ اجتماعي توسّعي منذ القرنين 18–19م، مع نفوذ العلماء المحلّيين وشبكات الزوايا،وذالك ما حفّز اندماج أقليات مهنية—ومنها من احتفظ بنسبٍ يهودي بعيد—ضمن الجماعات المسلمة عبر الزواج والمصاهرة وتبدّل المهن. الدليل هنا استقرائي من تحوّلات البنى، لا من وثائق نسبٍ صريحة.

 

■ 3. تبدّل مسالك القوافل والاقتصاد الصحراوي

ضمور تجارة الملح والذهب والرق في القرون الأخيرة، وتحوّل المراكز جنوبًا/ساحليًا زمن الاستعمار، أفقد المدن الأربعة دورها الوسيط المزدهر، فانفضّت عنها جماعات المهاجرين الموسميين. تقارير اليونسكو والسرديات الحضرية تؤكّد هذا التحوّل البنيوي.

 

■ 4. ضغطٌ فقهي-سياسي عابر للصحراء

أفكارُ المغيلي—وما تبعها من فتاوى وتطبيقات محلية—جرّمت امتيازاتٍ اجتماعية كان اليهود يتمتعون بها في بعض الواحات (ركوب الخيل، الاقتراب من دوائر السلطة، إلخ)، وهو ما ساهم في تقليص هامش الظهور العلني لهم حتى في المواضع التي لم تقع فيها مذابح مباشرة.

 

■ رابعًا: ماذا عن الشواهد النصية داخل موريتانيا اليوم؟

 

مكتبات الأسر في شنقيط/ولاته/تيشيت/وادان تحتفظ بعشرات آلاف المخطوطات غير المفهرسة بالكامل، في الفقه والوثائق والحِسبة والمعاملات. هذا يعني أن وثائق معاملاتٍ مع تُجّارٍ يهود قد تكون موجودة ولم تُصوَّر بعد أو لم تُنشَر علميًا. تقارير دولية وإعلامية تُبرز واقع الاعتماد على الحفظ العائلي لا الأرشفة المؤسسية.

 

■ نُصوص الولاتي:

الوصول إلى أعمالٍ مثل حسام العدل والإنصاف وشروحه الأصولية متاحٌ رقمياً، لكنها أعمالٌ نظرية لا تُقدّم—بحسب المتاح—سجلّ قضايا بأسماء أطراف. تبقى الحاجة إلى دفاتر الصكوك وسجلات الأحكام إن كانت محفوظة.

 

■ خامسًا: بين “اليهود” و“المتهوّدين”

 

تلفت بعض المصادر المحلية النظر إلى تمازجٍ إثني-ثقافي في الصحراء: سوننكيون “متهوّدون”، بربر زناتة، وأقليات شمالية “بيض”؛ وهي تصنيفات تاريخية تحتاج تدقيقًا لغويًا وأنثروبولوجيًا لفهم ما إذا كان المقصود يهودًا دينيين أم جماعاتٍ تبنّت طقوسًا/هوياتٍ هجينة. هذا الحقل ما زال في طور الجمع الميداني والنقد النصي.

 

■ خلاصة التحقيق:

 

وجود يهودٍ—بالمعنى الديني الصريح—في ولاته ومدنٍ موريتانية مجاورة مرجّحٌ ومدعومٌ بدراسات أكاديمية، لكنه قليل التوثيق بوثائق محلية منشورة. ثقلُ الشاهد يأتي من بؤرٍ شمالية (توات/تامنطيط) ومن أدبيات شبكة القوافل.

 

الزوال لا يبدُو “لغزًا فريدًا”، بل نتيجة مركّبة: تصفية مركز توات (1492)، تديّن اجتماعي جاذب، أفول اقتصاد القوافل، وضغطٍ فقهي-سياسي. هذه العوامل مجتمعة تفسّر الاندماج/التحوّل أكثر مما تفسّر “اختفاءً” فجائيًا.

 

الوثيقة المنسوبة لحكم الولاتي لصالح تُجار يهود: لا تتوافر نسخةٌ عامة أو رقم حفظ يُستشهد به حتى الآن. إن كانت محفوظة في مكتبةٍ خاصة، فإخراجها سيُحدث فارقًا كبيرًا في السجال. إلى أن تظهر، ينبغي التعامل مع القصة كـ مطالبةٍ قابلةٍ للتحقّق و ليست حقيقةً نهائية.

يمكنكم مشاركة المقال على منصتكم المفضلة

للتوصل بمستجدات الموقع كل يوم على بريدكم الالكتروني المرجو التسجيل في نشرتنا البريدية.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. نفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا رغبت في ذلك. قبولقراءة المزيد