- الدكتور كمال الهشومي
صباح هذا اليوم الثلاثاء 3 يونيو 2025، كان الخبر كالصاعقة، صادقًا في ألمه، فادحًا في وقعه: رحيل الأستاذ عبد الحق المريني، الناطق الرسمي باسم القصر الملكي ومؤرخ المملكة، رجل ظل شامخًا، أنيقًا في حضوره، متواضعًا في جوهره، راقيًا في فكره وسلوكه.
عرفته عن قرب في محطات إنسانية وعلمية نادرة، ومن أجملها تلك اللقاءات التي جمعتني به في النادي الدبلوماسي، حيث كان يصطحبني معه المرحوم عبد الواحد الراضي. كنت أجلس أحيانا معه إلى المائدة نفسها، في حضرة نخبة من رجال ونساء الدولة، مثقفين، فنانين، وزراء، … وكان حديثه إنسانيًا، دافئًا، صافيًا كنفسه، تُزينه ملامح طيبة زوجته التي كانت ترافقه.
وبين سطور الألفة والاحترام، تشجعت ذات لقاء وطلبت منه ـ وأنا أدرك ما يفرضه المقام ـ أن يحل ضيفًا على طلبة كلية الحقوق بعين السبع حيث كنت أستاذا، في لقاء مفتوح حول كتبه عن التاريخ الحديث للمغرب. لم يتردد، لم يتعالَ، بل ابتسم ورحّب، وطلب مهلة قصيرة ـ فهمت حينها أن الأمر يتجاوز إرادته، وهو أمر طبيعي.
لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى اتصل بي وحدد لي موعدًا في مكتبه بضريح محمد الخامس. استقبلني ببشاشته المعهودة، وبنبرة الود الخالص، طلب مني تفاصيل إضافية حول طبيعة اللقاء، وأبدى تواضعًا لا يُشترى، ولا يُتعلم، بل يسكن الفطرة النبيلة.
اتفقنا على الخطوط العريضة للقاء، ووعدني بالرد بعد استكمال الإجراءات، واساسا ضرورة الحصول على الاذن بذلك لما يفرضه منصبه الحساس، وهو ما حدث فعلًا. لم أُخبر أحدًا، وظل الأمر بين قوسين.
مرت عشرة أيام، ثم جاءني صوته على الهاتف، يطلب لقاءً جديدًا، هذه المرة لتدقيق التفاصيل. كنت قد أعددت حينها ورقة تحليلية استندت فيها إلى كتابيه: “الجيش المغربي عبر التاريخ” و”مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني”، وعنونتها ب: “تاريخ المغرب الحديث… مسيرة مواطنة”. وما زلت أحتفظ بها حتى اليوم.
حين دخلت مكتبه في الزيارة الثانية، استقبلني بابتسامة واثقة وقال لي: “لقد حصلت على إذن جلالة الملك، بل وشجعني جلالته على تأطير هذا اللقاء وأبدى إعجابه بالمبادرة”. كانت لحظة استثنائية من تلك التي لا تتكرر، لحظة عرفتُ فيها المعنى العميق للثقة الملكية وللرمزية التي يحملها هذا الرجل.
سلمته الورقة، قرأها باهتمام، ثم قال: “أنت أستاذ تاريخ ممتاز، هذه الورقة تُشرف كليتك”. فابتسمت وقلت: “عفوًا سيدي، أنا أستاذ قانون عام، أُدرّس القانون الدستوري والعلوم السياسية”. ضحك وقال: “وهذا يُشرفك أكثر”.
حددنا تاريخ اللقاء: 31 مارس 2015.

في تلك الفترة، كنت قد أخبرت الصديقة العزيزة، الأستاذة جميلة الحفيظي، عميدة الكلية آنذاك، وقلت لها إنني أُعد لها مفاجأة بمناسبة اختتام ولايتها الثانية كأول عميدة للكلية بعد ثمان سنوات من العمل المتواصل.
حلَّ يوم اللقاء، وكان يومًا ممطرًا. وصل المرحوم المريني بسيارة عادية، بلا موكب، بلا رسميات، بلا إشعار لأحد، فقط مع سائقه، متجردًا من كل أبهة المنصب. صباح اليوم المعهود استقبلني رجل الأمن الذي كان مكلفا بكليتنا عند بوابة الكلية وهو يلهث: “حرام عليك السي كمال، علاش ما خبرتناش؟ (ضاحكا) والله نهار شفتك وليتي أستاذ هنا قلت هاد السيد غادير يمحني!”. ابتسمت وأجبته: “أنا أستاذ فقط، التنسيق من اختصاص الإدارة”، وما هي إلا لحظات حتى كان رئيس الجامعة حينها، السيد ادريس المنصوري، يتصل للاستفسار ويطلب الحضور شخصيًا.
كان المريني هو من أصر أن يكون اللقاء بسيطًا، عاديًا، بعيدًا عن الطقوس والبروتوكولات. وهذا ما نقلته للعميدة قبلها بيوم.
دخل المدرج الكبير، أنيقًا، يحمل معطفه الشتوي الطويل، والمطر يتساقط بغزارة. كان المكان ممتلئًا بالكامل: طلبة الماستر، طلبة الإجازة، وبعض الضيوف القلائل. بدأ اللقاء وأنا أتوسط المنصة بين ضيفنا ورئيس جامعتنا كمسير، وسرعان ما سحر الجميع بسلاسة حديثه، ودقة تحليله، وبيداغوجيته النادرة في سرد التاريخ.
أدار النقاش بتواضع العلماء، وسعة صدر الكبار، وظل بعد نهاية الجلسة لأكثر من ساعة يلتقط الصور، ويتحدث مع الطلبة والأساتذة، في مشهد من أجمل ما عاشته الكلية.
ومنذ ذلك اليوم، توطدت علاقتنا، وتواصلنا طويلًا بعده، نتبادل التهاني والسؤال والود الصادق.
اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أشعر أن جزءًا من ذاكرة هذا الوطن قد غاب، وأن رجلًا من طينة الكبار قد رحل.
رحمك الله أيها الأنيق في التاريخ، الشامخ في الحضور، المتواضع في المقام. وتعازينا الحارة إلى جلالة الملك، وإلى أسرته الكريمة، وكل من عرف هذا الرجل ولامس جوهره.
وداعًا أستاذ عبد الحق المريني… اسمك سيظل محفورًا في ذاكرة الوطن.