في أوائل القرن التاسع عشر، كانت مدينة باريس تعاني من بنية تحتية قديمة ومشكلات صحية كبيرة، حيث أن المدينة كانت تعرف بالفوضى الضاغطة في شوارعها وأحيائها الضيقة. إلا أن عصر نابليون بونابرت كان بداية لمسار تحول كبير في العاصمة الفرنسية. ففي عام 1801، بدأ نابليون بوضع خطة لإعادة بناء المدينة، فبادر إلى تنفيذ مشاريع عمرانية هامة تهدف إلى تحسين حياة سكان باريس وتقديم صورة تليق بعظمة الإمبراطورية الفرنسية. ولكن بينما كانت مشاريعه بمثابة الأساس لهذا التحول، فقد كان الدور الفعلي في تطوير بنية باريس الحديثة يعود لاحقًا إلى البارون جورج-أوجين هاوسمان وذلك في منتصف القرن التاسع عشر.
كان نابليون أول من بدأ بتطوير بنية باريس الحديثة، حيث أطلق مشاريع هامة كان لها تأثير كبير على المدينة. وفي عام 1802، أصدر مرسومًا لإنشاء “قناة أورك” لتوفير مياه نقية لسكان باريس، وذلك من أجل تحسين الظروف الصحية والحد من الأوبئة المنتشرة. كما بدأ نابليون بتجديد العديد من الطرق والجسور القديمة داخل المدينة، بالإضافة إلى تحسين الشبكات التي تربط باريس ببقية المدن الفرنسية، مما سهل حركة المرور وفتح آفاقًا جديدة للنمو الاقتصادي.
كما قد عمل نابليون على تجميل المدينة من خلال بناء معالم معمارية شهيرة مثل “قوس النصر” و”عمود فيندوم” تكريمًا لانتصارات جيشه، في حين قام بتحويل كنيسة “مادلين” إلى معبد تمجيد للجيش الفرنسي. وتجلت رؤيته أيضًا في تنظيم الشوارع وزراعة الأشجار على جوانب الطرق لتجميل المدينة وتحسين بيئتها.
ورغم أن مشاريع نابليون كانت البداية، فإن التحول الحقيقي في معالم المدينة لم يحدث إلا بعد فترة طويلة، تحديدًا في عهد نابليون الثالث، عندما تولى البارون جورج-أوجين هاوسمان مسؤولية إصلاح المدينة في خمسينيات القرن التاسع عشر. حيث كان هاوسمان المهندس المعماري والإداري الذي حمل على عاتقه مهمة إعادة تصميم مدينة باريس من جديد.
كانت رؤية هاوسمان تهدف إلى تحديث المدينة بالكامل وجعلها نموذجًا للعواصم الأوروبية الحديثة. فبدأ بتوسيع الشوارع الكبيرة وإنشاء شبكة من الطرق الواسعة التي تسهل حركة المرور وكذلك توسيع الأحياء السكنية. وكان من بين أهم المشاريع التي أطلقها بناء “البلاد الكبرى”، وهو مشروع يهدف إلى إنشاء جادات كبيرة مستديرة مثل شارع الشانزليزيه، وهي التي أصبحت سمة مميزة لباريس.
كما أن واحدة من أبرز الخطوات التي قام بها هاوسمان كانت هدم الأحياء القديمة الضيقة التي كانت مزدحمة و تهدد صحة السكان، واستبدالها بمباني حديثة، مما ساعد في تحسين الظروف الصحية للمدينة. حيث قام بتطوير شبكة المجاري العامة والحدائق الكبيرة، مثل “حديقة لوكسمبورغ” و”حديقة بواتو”، بالإضافة إلى تجديد واجهات المباني في وسط المدينة لتظهر بأناقة ورقي.
كما قام ببناء العديد من الجسور الجديدة والممرات تحت الأرض، إلى جانب تحسين نظام التدفئة والتبريد في بعض المناطق، مما جعل من باريس واحدة من أكثر العواصم الأوروبية تقدمًا. وقد حرص هاوسمان على تعزيز المساحات الخضراء في المدينة، واهتم بتوفير المرافق العامة من أسواق وأماكن ترفيهية لزيادة رفاهية السكان.
رغم أن نابليون بونابرت كان بمثابة الأساس الذي بدأ مشاريع بناء وتحديث باريس، فإن البارون هاوسمان هو من قام بتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس. فبينما كانت مشاريع نابليون الأولى تهدف إلى تحسين الصحة العامة وتحديث البنية التحتية، فإن هاوسمان هو من قام بتطوير وتحويل باريس إلى المدينة الحديثة التي نراها اليوم. من توسع الشوارع إلى بناء المعالم الكبيرة. فاليوم نرى أن كل شيء في باريس يوثق الجهود الحثيثة التي بذلها كل من نابليون وهاوسمان، بإعادة تصميم العاصمة الفرنسية بشكل مهيب يليق بمكانتها كعاصمة إمبراطورية كبرى. وذلك بفضل الجهود المتضافرة، التي جعلت باريس من مدينة متهالكة إلى واحدة من أكثر العواصم روعة في العالم.