بقلم: عبد الهادي مزراري
أعلنت حركة تقرير مصير القبايل (ماك)، على لسان زعيمها فرحات مهني، يوم الأحد 14 دجنبر 2025، استقلال منطقة القبايل عن الدولة الجزائرية. وجاء الإعلان خلال تجمع حضره عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والفنية المنحدرة من منطقة القبايل، احتضنه قصر المؤتمرات بالعاصمة الفرنسية باريس.
وأكد مهني في كلمته أن “القبايل لم تكن ولن تكون جزائرية”، مشددا على امتلاك الحركة وثائق تاريخية تثبت، حسب تعبيره، استيلاء النظام الجزائري على أراضي القبايل مباشرة بعد إعلان تأسيس الدولة الجزائرية سنة 1962. واعتبر أن منطقة القبايل كانت قائمة ككيان مستقل قبل نشوء الدولة الجزائرية في سياق ما وصفه بالإرث الاستعماري.
في المقابل، قوبل إعلان الاستقلال برفض قاطع واستنكار شديد من قبل السلطات الجزائرية. وكانت وسائل الإعلام الرسمية قد شنت، خلال الأيام التي سبقت الإعلان، حملة واسعة ضد فرنسا، في خطوة فسرها مراقبون كمحاولة استباقية لإجهاض الإعلان أو تقليص تأثيره السياسي والدبلوماسي.
كما عمدت السلطات الجزائرية إلى تشديد الضغط الداخلي، وفرضت بالقوة رفع الأعلام الوطنية في مختلف المدن، في مسعى لتأكيد ما تسميه بالوحدة الوطنية والترابية.
وبغض النظر عن مآلات هذا الإعلان، فإن خطوة إعلان استقلال القبايل تمثل منعطفا بالغ الدلالة، إذ تكشف عن هشاشة التوازنات الجيوسياسية في المنطقة، وتحمل في طياتها تحديات سياسية وقانونية وأمنية كبيرة للنظام الجزائري.
ويبدو أن أكثر ما يضع النظام الجزائري في موقف حرج هو الخطاب الذي لطالما تبناه بشأن “الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها”، حيث دأب المسؤولون الجزائريون على تقديم بلادهم كـ”قبلة للثوار” وملاذ لحركات التحرر من الاستعمار والأنظمة الاستبدادية.
فعلى مدى أكثر من خمسة عقود، دعم النظام الجزائري جبهة البوليساريو الانفصالية ضد المغرب، تحت شعار تقرير مصير الشعب الصحراوي، واحتضنها منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، ووفر لها الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي، وسخر علاقاته الدولية للدفاع عنها في المحافل الأممية.
ويرى مراقبون أن الجزائر باتت اليوم تواجه انعكاسات السياسة ذاتها التي سعت إلى فرضها على جارها المغرب، إذ تشير المعطيات المتداولة إلى أن حركة “ماك” بزعامة فرحات مهني أصبحت في وضع يسمح لها بكسب تعاطف ودعم دوليين غير مسبوقين.
ويتزامن هذا التطور مع تحولات جيوسياسية عميقة يشهدها العالم، في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية واحتمالات اتساع رقعتها داخل أوروبا، والصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين حول النفوذ والريادة العالمية، فضلا عن التحولات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تبدو الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وتوتراتها مع لبنان وإيران واليمن، بمثابة مقدمة لسيناريوهات أكثر خطورة في المستقبل القريب.
ويؤخذ على النظام الجزائري، وفق محللين، فشله في استيعاب هذه التحولات، واستمراره في نهج العزلة، وتجاهله المتكرر لدعوات الإصلاح القادمة من الداخل والخارج، والتي طالبت بالانفتاح السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الاندماج الإقليمي.
وبدل الاستجابة لمطالب الحرية والسلام، لجأ النظام إلى الالتفاف عليها، معتمدا خطابا يوهم الرأي العام الداخلي بأن الجزائر “قوة إقليمية ضاربة” و”مدافع شرس عن المظلومين”، في حين تشير النتائج السياسية والدبلوماسية المحققة إلى عكس ذلك.
كما أغفل النظام الجزائري التحديات الداخلية المتفاقمة، وواصل تركيز جهوده على دعم جبهة البوليساريو، ما أدخله في صدامات مع أطراف إقليمية ودولية عدة، وصلت حد قطع العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء، كما حدث مع فرنسا وإسبانيا والإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى توتر علاقاته مع دول الساحل، خاصة مالي والنيجر.
وتفاقم الوضع أكثر بعد صدور القرار الأممي رقم 2797 بشأن نزاع الصحراء، بتاريخ 31 أكتوبر 2025، والذي رجح كفة المغرب من خلال تكريس سيادته على الأقاليم الصحراوية، مع اعتبار الجزائر طرفا مباشرا في النزاع، ليس فقط بسبب احتضانها لجبهة انفصالية مهددة بالتصنيف كتنظيم إرهابي، بل أيضا لتوظيفها البوليساريو في أجندتها الإقليمية والدولية.
ومع إعلان حركة “ماك” استقلال القبايل، تتضاعف خسائر النظام الجزائري، الذي يجد نفسه اليوم أمام خيارات معقدة، بين تنفيذ مقتضيات القرار الأممي 2797، واستعادة علاقاته المتدهورة مع فرنسا وإسبانيا ودول الجوار في الساحل، أو القبول بالشروط الأمريكية التي حددت نهاية دجنبر 2025 كموعد لتسوية الخلافات والانخراط في مسار السلام والاستقرار.
وفي حال واصل النظام الجزائري ما يصفه البعض بالمقامرة بآخر أوراقه، فإنه يغامر بإدخال البلاد في مزيد من الأزمات، قد تدفع الجزائر نحو سيناريوهات قاتمة، لا تقل خطورة عن الأوضاع التي تشهدها دول مثل السودان، أو في حدها الأدنى ليبيا.
للتوصل بمستجدات الموقع كل يوم على بريدكم الالكتروني المرجو التسجيل في نشرتنا البريدية.