تعيش تونس مرحلة سياسية قاتمة، تتجسد في احكام قضائية ثقيلة طالت عشرات المعارضين بتهم من قبيل “التآمر على امن الدولة”، في مسار يراه كثيرون تصفية ممنهجة لما تبقى من المجال السياسي العام. فقد ثبّتت محكمة الاستئناف، في اواخر نونبر، عقوبات سالبة للحرية في حق قرابة اربعين شخصا، اعقبها ايقاف معارضين كانوا يتابعون في حالة سراح، واندلاع اضرابات عن الطعام وصرخات عائلات اعتبرت الاحكام بمثابة “اعدام بطيء”. هذا التصعيد القضائي، الذي يتزامن مع اغلاق وسائل اعلام مستقلة وملاحقة اصوات منتقدة، يعكس انتقال البلاد من تجربة ديمقراطية متعثرة الى واقع تسلطي لا يقل اختلالا، حيث يستعمل القضاء اداة لاسكات الخصوم لا لضمان العدالة.
منذ 25 يوليوز 2021، حين استأثر قيس سعيد بكامل السلطات تحت مسمى “التدابير الاستثنائية”، تسارعت خطوات تفكيك مكتسبات ما بعد الثورة: حل البرلمان، تعليق الدستور، فرض نص دستوري جديد، وتهميش الهيئات المستقلة، وصولا الى سجن جل قادة المعارضة او دفعهم الى المنفى. ورغم ترديد الرئيس انه لا يتدخل في القضاء، فان خطابه السياسي لم يتردد في شيطنة خصومه ووصفهم بالخيانة والارهاب، في محاولة واضحة لشرعنة القمع واخضاع المجتمع بالخوف. اعادة انتخابه بنسبة تفوق 90 في المائة، في اقتراع لم تتجاوز المشاركة فيه 30 في المائة، لم تكن دليلا على الشعبية بقدر ما كانت مؤشرا على العزوف وفقدان الثقة، وهو ما يفضح الهوة بين الخطاب الرسمي والواقع الشعبي.
اليوم، يبدو ان قيس سعيد يلعب باخر اوراقه: قمع انتقائي يشتد حيث يرى الخطر الحقيقي، وتراجعات شكلية تقدم كاشارات انفراج بينما الهدف هو اعادة ترتيب القبضة الامنية. ما يحاول الرئيس تسويقه كصورة “زعيم محبوب ومرغوب فيه” ليس سوى انعكاس خوف عميق من التونسيين الاحرار، ومن عودة الشارع الذي اسقط الاستبداد ذات يوم. فالقوة التي تبنى على اسكات المعارضين وتزييف الارادة العامة لا تصمد، وتجارب التاريخ القريب تؤكد ان شرعية الخوف قصيرة العمر، وان تونس، مهما اشتد الخناق، لا تزال قادرة على استعادة صوتها.
للتوصل بمستجدات الموقع كل يوم على بريدكم الالكتروني المرجو التسجيل في نشرتنا البريدية.