+محمد الكيحل،
توطئة:
فاجأ زئير أسود الأطلس، من ملاعب قطر خلال كأس العالم لكرة القدم ، العديد من المراقبين والشغوفين باللعبة الأكثر شعبية وشهرة في العالم. لكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لأولئك المتابعين باهتمام للسياسات العمومية المغربية منذ ربع قرن. فانتصار المنتخب الوطني لم يشكل مفاجأة بقدر ما كان تتويجا وتأكيدا لانتهاج سياسة ملكية متبصرة وذات رؤية ثاقبة ودؤوبة على المدى الطويل. واليوم يأتي الإنجاز الرياضي المتمثل في فوز المنتخب المغربي بكأس العام للشاب الأقل من عشرين سنة 2025 التي احتضنتها ملاعب الشيلي، هذا الفوز لم يأتي وليد الصدفة بل جاء نتيجة لمسار رياضي وطني متطور وثمرة للجهود الملكية المتبصرة في مجال كرة القدم بشكل خاص وعامة الشأن الرياضي ببلادنا، إذ يعتبر النجاح الذي حققه أشبال الأطلس لكرة القدم ترجمة فعلية للرؤية الملكية السامية في هذا الصنف من الرياضات.
فبفضل رؤية جلالته بات المغرب فاعلا رئيسيا في المشهد الكروي القاري والدولي؛ فمنذ ربع قرن، تبنى المغرب، تحت القيادة النيرة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، خيارا للانبثاق الشامل المتعدد الأبعاد والتدريجي أساسه جعل المملكة المغربية الإنسان المغربي ركيزة لتنميتها. فمكافحة عدم المساواة بمختلف أشكالها ( النوع الاجتماعي والمجتمعي والترابي)، وتعميق الإطار والتجربة الديمقراطية، وتعزيز الروابط الاجتماعية من خلال الإدماج والمشاركة الموسعة، مع تعميم الحماية الاجتماعية وتشجيع الدولة الحامية والداعمة…الخ، بحيث تتلاقى كل هذه السياسات المتبصرة في العنصر البشري.
أولا: ملاحظات أولية حول مجال تدبير الشأن الرياضي
قبل التأكيد كيف أضحت الرياضة، بفضل التوجيهات الملكية السامية، تشكل إحدى أهم الأدوات للقوة الناعمة للمغرب، حيث ما فتئت المملكة توظف الدبلوماسية الرياضية للتموقع أكثر على الساحة الدولية وضمان الريادة القارية، لا بد في البداية من إعطاء لمحة تاريخية وملاحظات أولية حول مسار تطور وتدبير الشأن الرياضي ببلادنا.
– الملاحظة الأولى: المجال الرياضي لم يحتل حيزا هاما في السياسات العمومية
باستقراء المخططات الوطنية وتحليل التصاريح الحكومية للوزراء الأولين المتعاقبين منذ الاستقلال إلى غاية سنة 1981، يتضح بجلاء غياب أي اشارة صريحة إلى قطاع الرياضة. وفي مرحلة لاحقة تناولت التصاريح الحكومية هذا الموضوع بكيفية متفاوتة من حيث الأهمية. لكن الملاحظ أن هذا التناول كان يغلب عليه طابع العموميات والتوجهات الكبرى.
وعلى الرغم من حضور المحور الرياضي بقوة في المخططات الاقتصادية والاجتماعية التي تم وضعها بين سنتي1958 – 2004: فإن العديد من المشاريع المهمة التي جرى التخطيط لتنفيذها لم ترى النور وظلت تؤجل في كل مرة. ظل الوضع ما هو عليه إلى حدود سنة 2008: حيث خلص تشخيص واقع الممارسة الرياضية إلى ضعف هذه الممارسة من لدن الساكنة ( مغربي واحد من أصل ستة يمارسون الرياضة بكيفية مستمرة)، وتدني عدد الرياضيين المجازين (أقل من واحد في المائة من المغاربة حاصلون على رخصة رياضية)، والتراجع المستمر لنتائج الرياضيين المغاربة على المستوى العالمي. في ظل هذه الوضعية المختلة، جاء تنظيم المناظرة الوطنية الثانية للرياضة، بعد مرور أكثر من أربعة عقود تنظيم المناظرة الأولى سنة 1965، منذ هذه الفترة أصبح المجال الرياضي بالمغرب يحظى بالاهتمام في السنوات الأخيرة وذلك بفضل التوجيهات الملكية المتضمنة في العديد من الخطب الملكية السامية.
– الملاحظة الثانية: الخطب الملكية السامية شكلت منطلقا لتشخيص أعطاب مجال التدبير الرياضي
في الحقيقة كان المجال الرياضي ببلادنا يعيش في التخبط والارتجالية، لكن بفضل التوجيهات الملكية السامية أضحى المغرب بلدا رائدا في هذا المجال؛ نقطة انطلاقة مسار التحول والتطور في المجال الرياضي ابتدأ منذ سنة 2008 وهي السنة التي انعقدت فيها المناظرة الوطنية حول الرياضة بمدينة الصخيرات حيث وجه صاحب الجلالة رسالة إلى المشاركين في هذه المناظرة الأولى من نوعها. ومما جاء في الرسالة الملكية السامية : ” ….ومن التجليات الصارخة لاختلالات المشهد الرياضي ما تتخبط فيه الرياضة من ارتجال وتدهور واتخاذها مطية، من بعض المتطفلين عليها، للارتزاق أو لأغراض شخصية، إلا من رحم ربي من المسيرين الذين يشهد لهم تاريخ الرياضة ببلادنا بتضحيتهم بالغالي والنفيس من أجلها…”.
الرسالة تضمنت كشفت عن عمق الاختلالات البنيوية التي يعاني منها المجال الرياضي وتضمنت توجيها شكلت خارطة طريق في تطور المسار الرياضي؛ فالمغرب بفضل السياسة الرشيدة لصاحب الجلالة في المجال الرياضي أصبح فاعلا رياضيا قاريا وله حضور وازن في المؤسسات الرياضية الافريقية والعالمية ولا سيما في الفترة الأخيرة.
– الملاحظة الثالثة: الارتقاء بالمجال الرياضي من خلاله دسترته بالوثيقة الدستورية
وعيا بالدور الذي تضطلع به الرياضة في تحقيق التنمية المستدامة، أقرت خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030 بالرياضة كآلية هامة لتمكين النساء والشباب وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، في مجال الصحة والتربية والتعليم والاندماج الاجتماعي. وفي المغرب أضحت الرياضة تعتبر حقا يكفله الدستور، بمقتضى :الفصل 26 الذي ينص: ” تدعم السلطات العمومية بالوسائل الملاءمة، تنمية الإبداع الثقافي والفني والبحث العلمي والتقني والنهوض بالرياضة….”. والفصل 31: ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في …. الاستفادة من التربية البدنية والفنية”. وكذا الفصل 33: “… على السلطات العمومية اتخاذ التدابير الملائمة لتحقيق ما يلي: …” تيسير ولوج الشباب والثقافة والعلم والتكنولوجيا، والفن والرياضة والأنشطة الترفيهية”.
كما يمكن اعتبار الفصل 170من الدستور من الفصول المكرسة لدسترة الجانب الرياضي حيث ينص: ” يعتبر المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، المحدث بموجب الفصل 33 من هذا الدستور، هيئة استشارية في ميادين حماية الشباب والنهوض بتطوير الحياة الجمعوية. وهو مكلف بدراسة وتتبع المسائل التي تهم هذه الميادين، وتقديم اقتراحات حول كل موضوع اقتصادي واجتماعي وثقافي، يهم مباشرة النهوض بأوضاع الشباب والعمل الجمعوي، وتنمية طاقاتهم الإبداعية، وتحفيزهم على الانخراط في الحياة الوطنية، بروح المواطنة المسؤولة.
– الملاحظة الرابعة: مأسسة الشأن الرياضي بعد دسترته
بدأت بعض المؤسسات الوطنية تولي اهتماما للجانب الرياضي ونخص بالذكرمجلس المستشارين؛ أحال رئيس مجلس المستشارين في سنة 2018 على المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لإعداد دراسة حول اقتصاد الرياضة؛ حيث أعد المجلس دراسة معنونة ب: ” دراسة حول السياسة الرياضية بالمغرب” صدر سنة 2019 ( احالة رقم26 / 19)، وكذا المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛ فطبقا للمادة السادسة من القانون التنظيمي للمجلس ، قرر المجلس، في إطار إحالة ذاتية، قرر المجلس إعداد موضوع حول اقتصاد الرياضة معنون ب: ” اقتصاد الرياضة خزان للنمو وفرص الشغل ينبغي تثمينه” صدر سنة 2022.
وعلى مستوى التخطيط القطاعي تتجلى بعض مظاهر هذا الاهتمام في” الاستراتيجية الوطنية للرياضة في أفق 2020 ” التي لأول مرة تبنت رؤية سياسية طموحة وتضمنت رافعات للنهوض بالشأن الرياضي . لكن هناك العديد من العوامل حالت دون ترجمتها في سياسة عمومية رياضية حقيقية ولم يتم إرساء آليات كفيلة بتنزيل أهدافها على أرض الواقع. وهناك العديد من الاختلالات التي حالت دون تحقيق الأهداف الطموحة المتوخاة من هذه الاستراتيجية وقد أبرز ها المجلس الاقتصادي والاج والبيئي في دراسة حول السياسة الرياضية بالمغرب” صدر سنة 2019 كما أسلفنا.
الملاحظ كذلك بداية حضور الرياضة في البرنامج الحكومي 2021-2026؛ حيث جاء في هذا البرنامج:” في المجال الرياضي، تؤكد الحكومة على سعيها الحثيث نحو ترصيد الاستراتيجيات الخاصة بالرياضة، و أيضا بلورتها لسياسة عمومية رياضية تستجيب للحاجيات والقدرات، مع وضع آليات لتنزيلها بشكل أفضل باعتبارها رافعة أساسية لتحقيق التنمية؛ والاهتمام بالرياضة باعتبارها رافعة أساسية لتحقيق التنمية: تعتزم الحكومة تبني مقاربة متكاملة وشمولية مندمجة، بخلق شراكة حقيقية مع الجماعات الترابية، وتشجيع انخراط مؤسسات المجتمع المدني في المجال الرياضي، بغية تطوير الرياضة محليا، وإحداث الوحدات الرياضية التربوية الجماعية، وتوفير الفضاءات الضرورية على الصعيد الترابي.
واعتبارا للأدوار المتنامية للرياضة، فإن الحكومة عازمة،على إعطاء الأولوية للنهوض بالرياضة المدرسية و الجماعية على المستوى الترابي؛ توضيح دور الجماعات الترابية في النهوض بقطاع الرياضة وتعزيز إرساء الالتقائية بين قطاعات الشباب و الرياضة والتربية الوطنية ومضافرة جهودها؛ منح التربية البدينة و الرياضية مكانة بارزة في البرامج الدراسية، والرفع من ساعاتها ومن المعامل الممنوح لهذه المادة؛ بث دينامية حقيقية في الرياضة المدرسية المهيكلة على الصعيد الترابي…الخ.
– الملاحظة الخامسة: الطابع العام والحضور المحتشم للجانب الرياضي في البرامج الحكومية: فالجانب الرياضي في البرنامج الحكومي لا يرقى إلى مستوى الطموحات والآمال بل هو مجرد أفكار فقط يغلب عليه طابع العموميات والتوجهات الكبرى، ولا يجمع بينها خيط ناظم وعناصر أولية تشكل قاعدة لبناء استراتيجية أو سياسية عمومية رياضية. بل أن الصيغة التي يتم فيها تقديم الجانب الرياضي في البرنامج الحكومي لا تختلف عن الصيغ التي تميز البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية والتي غالبا ما يطغى عليها الصيغ الأدبية والإنشائية والطابع العام وافتقادها لرؤية رياضية شاملة كفيلة على الأقل لرصد وتشخيص عمق الاختلالات البنيوية التي يعاني منها المجال الرياضي، فما بالك إنتاج سياسة رياضية عمومية ذات رؤية شمولية و متكاملة الجوانب تساهم في تطور المسار الرياضي ببلادنا.
ثانيا: الرؤية الملكية السامية جعلت من الرياضة إحدى أهم أوراق القوة الناعمة للمغرب
لم تعد القوة الناعمة حكرا على الفنون والثقافة والإعلام، بل دخلت الرياضة بقوة إلى هذا المفهوم باعتبارها أداة مؤثرة في تشكيل صورة الدول وتعزيز مكانتها الدولية، في عالم اليوم، تتحول البطولات والألقاب الرياضية إلى رأسمال سياسي يستثمر في تحسين صورة الأنظمة أمام شعوبها وأمام العالم؛ فالرياضة أضحت تشكل أحد أهم أدوات القوة الناعمة في القرن الحادي والعشرين لكونها تتخطى حواجز اللغة والسياسة وتصل مباشرة وبشكل سلس إلى وجدان الشعوب.
لقد شكلت كرة القدم، على سبيل المثال، بالنسبة للدول الرائدة في هذا المجال كالبرازيل والأرجنتين وألمانيا جزءا من الهوية الوطنية، حيث وظفت نجاحات الأساطير مثل بيليه ومارادونا وميسي وبيكنباور ليس فقط للإشادة باللاعبين أنفسهم، بل انعكس هذا التوظيف الباهر على صورة دولهم كقوى كروية مؤثرة عالميا. وقد لا حظنا كيف استثمرت قطر مليارات الدولارات في استضافة كأس العالم 2022 حيث وظفت الرياضة كوسيلة لتحسين صورتها في المجتمع الدولي وقدمت نفسها كدولة حديثة وقادرة على تنظيم حدث عالمي بأعلى المعايير.
وفضلا عن الإشعاع الحضاري والثقافي والرياضي حققت هذه الدول بفعل الرياضة مكاسب سياسية وثقافية وسياحية هائلة؛ فالرياضة تحولت، وبخاصة كرة القدم، من مجرد لعبة إلى أداة استراتيجية ذات وزن كبير في العلاقات الدولية. فقد أصبحت صناعة واعدة ورافعة للاستثمار وفضاءً لإنتاج الثروة وخلق فرص الشغل، فضلا عن ذلك تشكل الرياضة نموذجا ناجحا في التعبئة الشعبية وتعزيز الانتماء الوطني وتقديم صورة حضارية عن البلد المنظم للتظاهرات الرياضية العالمية.
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن كرة القدم تساهم بما يقارب 2 % من الناتج الداخلي الخام في الدول التي جعلت منها صناعة حقيقية.. ففي إنجلترا مثلا، تدر صناعة كرة القدم أكثر من 11 مليار جنيه إسترليني سنويا، وتخلق فرص عمل في الإعلام والسياحة والتسويق، أما في إسبانيا، فإن كرة القدم تمثل حوالي 1.5 % من الناتج المحلي الإجمالي بفضل أندية مثل ريال مدريد وبرشلونة التي أصبحت علامات تجارية عالمية، وفي ألمانيا تجاوزت المداخيل الكروية ثمانية ملايير أورو سنويا بفضل التنظيم والكفاءة في التكوين، فيما تحولت البرازيل إلى أكبر مصدر للمواهب الكروية في العالم بأكثر من عشرين ألف لاعب محترف خارج البلاد يدرون عملة صعبة على الاقتصاد الوطني، كما تعد فرنسا نموذجا في استثمار الأكاديميات الرياضية لتكوين لاعبين كبار، وهو ما جعل كرة القدم فيها قطاعا اقتصاديا قائما بذاته.
وبالمغرب حققت الدبلوماسية الرياضية المغربية، بفضل الرؤية الملكية المتبصرة ، مكاسب ملموسة على الساحة الإفريقية والدولية، مكنت المملكة من تعزيز حضورها الدبلوماسي بعد العودة للاتحاد الإفريقي واستثمار هذه الورقة الرياضية بشكل ذكي لتعزيز صورته وصون مصالحه الحيوية. كما أسهمت هذه الورقة الذكية في بناء جسور التفاهم والتقارب بين الشعوب وفي ترويج قيم السلام والتسام. فالرياضة كانت ولا تزال وستظل وسيلة ناجعة لتحقيق التقارب بين الأمم والشعوب وتصحيح ما تفسده السياسات والعلاقات الدولية المبنية على المصالح الوطنية الضيقة.
ثالثا: خلاصات واستنتاجات
نستنتج أن الاهتمام بالمجال الرياضي ببلادنا عرف تأخرا ملحوظا بفعل تظافر مجموعة من العوامل تطرقنا لبعضها. كما يتضح أن بلادنا انتهجت سياسة متدرجة في المجال الرياضي، لكنها اتسمت بالبطء وبعض التجاوز على المستوى التدبير. كما أن هناك خلل وقصور على المستوى المقاربة: التي لم تكن مقاربة شمولية تقارب المجال الرياضي كمجال عرضاني له ارتبا بالتنمية والبيئة والصحة وحقوق الانسان .
لكن وبفضل الرؤية الملكية السديدة والنيرة لجلالة الملك محمد السادس، هناك اليوم وعي بضرورة تجاوز الصعوبات التي يواجهها المجال الرياضي بعدما أضحى رافدا من روافد التنمية المستدامة ومحركا للاقتصاد كما أن الاستثمار في الجانب الرياضي أصبح ورافدا من روافد الاقلاع الاقتصادي والاجتماعي.
لقد حقق المغرب بعض الإنجازات الهامة في مجال تأثيره الثقافي والرياضي واشعاعه الخارجي، لكن للوصول لنتائج أفضل لابد من العمل بشكل أكثر، فالتحديات التي تواجه المملكة متعددة في جميع المجالات لابد معها من العمل بمجهودات مضاعفة لتحقيق رهانات الامة المغربية في مختلف المجالات. لكن يمكن للمغرب في ظل المتغيرات والتحولات الدولية الراهنة، تعزيز وجوده في القارة الإفريقية، خاصة أنه ما زالت هناك مجموعة من الفرص التي يجب استكشافها من أجل تعزيز القوة الناعمة للمملكة في محيطها الاقليمي والقاري لا سيما في ظل الاستحقاقات الرياضية التي تعتزم بلادنا تنظيمها خلال الشهور والأعوام القادمة.
وهي مناسبات رياضية سانحة لإبراز بعض من الجوانب والأدوار التي أضحى يلعبها البعد الرياضي في تكريس القوة الناعمة للمملكة المتنامية، من خلال إبراز أصالة الأمة وغنى الحضارة المغربية لدى شعوب العالم، وكذا المكانة والريادة التي أضحت تحظى بها لدى بقية دول العالم؛ بفضل الاستقرار السياسي التي تنعم به، وباعتبارها قوة اقتصادية صاعدة تساهم في التنمية والاستقرار والأمن والسلم في محيطها الإقليمي والقاري.
ومن المهم جدا جعل الرياضة نموذجا ناجحا في التعبئة الشعبية وتعزيز الانتماء الوطني وتقديم صورة حضارية عن المغرب مع ضرورة مواكبة هذه الدينامية بتنمية ثقافية حقيقية تعبئ المجتمع وتجعله فاعلا في مشروع وطني شامل. فنهضة الأمم تقوم على الانطلاق من هوية وطنية صلبة راسخة وقوية. هذا الإحساس والشعور الوطني والاعتزاز بالهوية الوطنية، ليس مهم فقط في بناء القيم السياسية والدبلوماسية الخارجية والقوة الثقافية للبلد، ولكنه أيضا في غاية الأهمية لتحقيق سياسة داخلية تتسم بالحكامة ليس في المجال الثقافي والرياضي فحسب بل في كل الميادين العامة باعتبارها مجالات مترابطة ومتداخلة.
لقد أدى تصاعد التنظيم والاحترافية والعالمية في الممارسات الرياضية إلى اعتماد عدد كبير من دول العالم على الرياضة ضمن أدوات تفعيل القوة الناعمة للدولة، وبناء صور ذهنية إيجابية عنها لتعزيز أرصدة القوة غير المادية، والترويج للنموذج الجاذب الذي تسعى لتسويقه، واستعراض مركزية مكانة الدولة على المستوى العالمي. وقد لا حظنا كيف جعل ذلك الإنجاز التاريخي من المغرب موضوعا عالميا في محركات البحث ووسائل الإعلام حيث أصبح مصطلح “المغرب” من أكثر الكلمات تداولا على “غوغل” في تلك الفترة، دلالة على حجم الإشعاع الذي تحقق للمملكة بفضل الرياضة.
وهو أمر بات المغرب يكرسه بقوة خلال السنوات الأخيرة، حيث قام باستثمارات هامة في المجال الرياضي، من خلال تطوير البنيات التحتية الرياضية كبناء الملاعب الحديثة التي يجري إنشاؤها استعدادا لتنظيم كأس العالم 2030 بمعية إسبانيا والبرتغال، وإنشاء أكاديمية محمد السادس لكرة القدم التي أصبحت تضاهي أكبر المدارس الكروية الأكثر شهرة في العالم. فكرة القدم، باعتبارها الرياضة الأكثر شعبية وشهرة في العالم، هي اليوم ليست مجرد رياضة فقط بل هي مرآة لروح الشعوب ومختبر لقدرتها على التنظيم والتنافس والابتكار.
والمغرب، من خلال ما حققه منتخبه للكبار وما يحققه شبابه اليوم، يبرهن على أن النجاح الرياضي يمكن أن يتحول إلى مشروع وطني متكامل، يجمع بين الطموح الاقتصادي والدبلوماسي والثقافي، فحين يرفع شباب المغرب الكأس فهم لا يرفعون فقط رمزا رياضيا بل يرفعون راية وطن آمن بأن طريق النهضة قد يبدأ من ملعب لكنه يمتد ليصل إلى العالم.
إن المغرب قادرا على تحقيق هذا المشروع الوطني المتكامل في بعده الاقتصادي والاجتماعي والرياضي والثقافي والتضامني والأخلاقي، ورفع هذا التحدي شريطة ترجمة التوجهات الملكية المتضمنة في العديد من الخطب والرسائل الملكية السامية، فهي تشكل نبراسا وخارطة طريق واضحة المعالم يمكن البناء عليها، فلطالما اعتبرت الرؤية الشمولية الملكية على الدوام أن الرياضة عنصر من العناصر الرئيسية للتنمية. لذا فقد، يقول جلالته ، أوليت باستمرار عناية خاصة للأعمال التي تقوم بها الدولة وباقي الفاعلين في هذا الإطار، ولا سيما المنظمات غير الحكومية على الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية…، كما انخرطت، والقول دائما لجلالته، على الدوام في تلكم الفلسفة التي تقوم عليها أخلاقيات الرياضة لا سيما وأن للرياضة أثرا بالغا على البنية الجسدية للأشخاص وعلى انفتاحهم. فالرياضة تمكن من اكتساب روح العمل الجماعي والانفتاح عن الآخر وتحفز على التنافس السليم فضلا عن كونها عاملا لإدماج الشباب يقيهم من الوقوع في الانحراف ويمكنهم من التوظيف المجدي لأوقات الفراغ إضافة إلى أنه يسهم بشكل فعال تعزيز المسار التعليمي للأطفال والشباب.
وعلاوة عن ذلك، يقول جلالته، فإن للرياضة أثرا مباشرا على واقع الشغل. ويتجلى ذلك من خلال الآفاق التي تفتحها إقامة البنى التحتية المخصصة للرياضة والأطر التي تحتاجها. وكذا من خلال إنشاء وحدات إنتاجية لها ارتباط بقطاع الرياضة والتي توفر موارد وخبرات أكيدة فضلا عن الآثار المواكبة لهذه الدينامية والتي تساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية للأمم. إن الثنائية المحورية للتكوين والشغل الموجهين بالأساس لدعم أهداف الرياضة المنتجة لفرص الشغل تستحق منا، يقول جلالته، بذل المزيد من الجهود في إطار أنظمتنا التربوية. لذا ينبغي التحفيز على اختيار الطفل للرياضة كمهنة يزاولها في المستقبل وذلك في سن مبكرة شأن الرياضة في ذلك شأن باقي المهن. بيد أنه لن يتأتى لنا النجاح في ذلك دون أن يدمج العمل الرامي إلى تنمية الرياضة في منظور له عنصر المشاركة والقرب في جميع مناحي الحياة الاجتماعية (مقتطف من الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة الموسومة بعنوان : ” الرياضة كوسيلة لدعم التنمية الاقتصادية المحلية وخلق فرص الشغل”).
لقد شكلت بكل مصداقية وموضوعية،الخطب والرسائل الملكية السامية التي يوجهها صاحب الجلالة للأمة وقواها الحية دوما حافزا لتحقيق نهضة رياضية، من خلال تحديد الاتجاه وإعطاء الإرشادات وتحفيز السياسات. وتحمل الكلمات الملكية السامية في طياتها نجاعة وقوة الخطاب الملكي: فهي متجذرة في الماضي، و مؤطرة للحاضر، و مستشرفة للمستقبل.
فهل تأخذ الحكومة الحالية والمقبلة العبرة من الخطب والرسائل الملكية وتجعل من الرياضة قاطرة للتنمية ومحركا للإنتاج والثروة وخلق فرص الشغل للشباب التواق إلى الكرامة والعيش الكريم؟ أم أن النخب الحكومية السياسية منها و الإدارية والبرلمانية تبقى عاجزة عن ترجمة التوجيهات الملكية السامية إلى سياسة عمومية رياضية واقتصادية واجتماعية ذات مفعول اقتصادي وأثر اجتماعي على أرض الواقع؟ أم أن واقع الحال لا زال يكشف عن هوة صارخة بين النظرة الثاقبة والاستشرافية لصاحب الجلالة ونخب غارقة في الحسابات السياسية الضيقة وتحقيق مصالحها الذاتية ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة للبلاد والعباد؟ تلكم هي بعض من التحديات التي تواجه الحكومة والنخب السياسية حاليا وخلال العقود القادمة؟
فالعمق التاريخي والإشعاع الحضاري للمغرب وغنى تنوعه الثقافي ونجاحاته الرياضية والحرص الملكي الموصول على صيانته والارتقاء بمختلف الأصناف الرياضية و الرؤية الملكية المتبصرة في هذا المجال، يقدم نموذجا للطريقة التي يجب أن يتم بها تدبير هذه المكتسبات الرياضية؛ فالمقوم الثقافي والرياضي يعتبر من أهم الأوراق الرابحة في القوة الناعمة للمملكة المتصاعدة؛ فقد لا حظنا كيف أصبحت كرة القدم اليوم، على سبيل المثال، تعتبر إحدى أدوات القوة الناعمة التي تروج لصورة البلد بأقل التكاليف وتسهم في تعزيز الدبلوماسية العامة للبلدان وفي مقدمتها الدبلوماسية الثقافية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
ففضلا عن الادوار النبيلة للرياضة في التقارب بين الشعوب والتعايش وإبراز إشعاع لمملكة الدولة على الصعيد العالمي، أضحت الرياضة تعد أحد المقومات الأساسية للقوة الناعمة فيما أصبح يعرف بالدبلوماسية الرياضية؛ فتنظيم مجموعة من التظاهرات الرياضية القارية والعالمية تعتبر فرصة مواتية ليس فقط للتعريف بالريادة الاقليمية والقارية للمملكة وإبراز قوتها الناعمة الفاعلة والمؤثرة في محيطها القاري والدولي، والتي تستمدها من مقوماتها التاريخية والحضارية والثقافية والسياحية والرياضية، بل أيضا لتوظيف الورقة الرياضية من أجل الدفاع عن المصالح العليا للوطن وعلى رأسها الوحدة الترابية في مختلف المحافل الإقليمية والدولية.
محمد الكيحل، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالمعهد الجامعي للدراسات الافريقية جامعة محمد الخامس الرباط، ورئيس مركز إشعاع للدراسات الجيوسياسية والاستراتيجية
للتوصل بمستجدات الموقع كل يوم على بريدكم الالكتروني المرجو التسجيل في نشرتنا البريدية.