ليبيا وأوكرانيا: جبهتا اختبار لإعادة تشكيل النظام العالمي

نهاية سايكس بيكو تُعلن من جديد

منذ سنوات، يُطرح سؤال مركزي في الأروقة السياسية: لماذا لم تستقر ليبيا حتى الآن؟

والإجابة ليست في تفاصيل الداخل الليبي فحسب، بل في طبيعة التوازنات العالمية، حيث تتحول الدول الهشة إلى منصات لتصفية الحسابات الكبرى.

 

إن عدم استقرار ليبيا لم يكن عبثًا ولا نتيجة إخفاق محلي معزول.

بل هو ثمرة هندسة جيوسياسية دقيقة، تُوظّف فيها ليبيا كأداة ضغط موجهة نحو خاصرة أوروبا الجنوبية، بالتوازي مع أوكرانيا التي تُستخدم لضرب رأس القارة من الشمال الشرقي.

المعادلة واضحة: من يشعل أوكرانيا لن يتردد في استثمار ليبيا، والعكس صحيح.

 

وجود الرئيس فلاديمير بوتين في قلب المشهد الروسي ليس حدثًا عابرًا، تمامًا كما أن تصدُّر شخصيات مثل محمد المنفي وغيرهم للمشهد الليبي ليس محض مصادفة.

فكلاهما يُمثلان رموزًا ضمن منظومة تغيير مدروسة، تُستخدم فيها الشخصيات، والمواقع، والأزمات كأدوات تكتيكية لتنفيذ مشروع استراتيجي أعمق: تقويض النظام الغربي من أطرافه.

 

ليبيا اليوم ليست فقط ضحية انقسام داخلي، بل ساحة مفتوحة تُدار من خلف الستار، وأوروبا – بكل مؤسساتها – تعيش حالة إنكار لهذا الواقع.

 

وأمام هذا المشهد، يفرض المنطق الجيوسياسي إعادة صياغة مقاربة التعامل مع ليبيا؛ مقاربة لا تقوم على “إدارة الأزمة”، بل على “حسم المشهد” لصالح محور الاستقرار، عبر:

1. نزع أدوات الاختراق الجيوسياسي من الداخل الليبي.

2. إعادة تموضع الشركاء الحقيقيين القادرين على خلق ميزان ردع في وجه تمدد نفوذ موسكو وغير موسكو.

3. نقل الملف الليبي من الحياد الأوروبي إلى التمركز الأمريكي الفاعل، بما يحقق توازنًا حقيقيًا على الأرض لا تُكسره الصفقات الهشة ولا تعالجه المؤتمرات الشكلية.

 

منذ أمد بعيد، كان كثيرون يعتقدون أننا “نغني خارج السرب”. كنا نُحذر مبكرًا من خطورة الاعتماد على أدوات النظام القديم، وننبه إلى أن المعادلة الأمنية في ليبيا لن تُنتج حلاً سياسياً دائمًا، وأن التركيز على التسويات الشكلية ما هو إلا تأجيل للانفجار القادم.

 

اليوم، جاء التصريح التاريخي على لسان السفير الأميركي والمبعوث الخاص إلى سوريا، توماس باراك، الذي أعلن بوضوح – ولأول مرة – أن منظومة سايكس بيكو قد انتهت إلى الأبد، ومعها انتهت أدواتها ومقولاتها السياسية الفاشلة.

هذا الموقف الأميركي غير المسبوق لا يُمثّل مجرد تحول خطابي، بل نقطة فاصلة في السياسة الدولية، تعترف صراحة بأن التوازنات القديمة لم تعد قابلة للاستمرار.

 

لقد حذّرنا مرارًا من أن المعادلة الأمنية المفروضة على ليبيا ليست مدخلاً للحل، بل امتداد لأزمة مركّبة تُدار من الخارج ولا تنتمي لطموحات الشعب الليبي.

 

اشهار وسط المقالات

ومع هذا التحول العلني في الموقف الأميركي، لم تعد هناك حجة أمام الفاعلين الدوليين أو الإقليميين للاستمرار في إدارة الأزمة الليبية بالمنهجيات البالية.

لقد آن الأوان لأن يتحول الصوت الليبي من التجميد إلى الفعل، وأن يكون شريكًا حقيقيًا في إعادة صياغة التوازن الإقليمي الجديد، لا مجرّد مفعول به.

 

ومن هذا المنطلق، نؤكد على النقاط التالية كأرضية استراتيجية لأي مشروع مستقبلي جاد:

• إنهاء مرحلة الحياد الأوروبي السلبي، والتحول إلى شراكة مسؤولة تُراعي مصالح الشعوب لا الأنظمة المؤقتة.

• تمكين القوى الوطنية الليبية الحقيقية من صياغة حل سيادي غير مرتهن، يعيد للدولة سيادتها وهيبتها.

• نقل الملف الليبي إلى قلب القرار الأميركي الاستراتيجي، كجزء من بناء أمن المتوسط والحد من التمدد الروسي والإيراني جنوب أوروبا.

• استئصال أدوات التخريب الإقليمي، سواء عبر وكلاء الميليشيات أو منظومات الفساد المرتبطة بمحاور أجنبية.

 

إن ليبيا، تمامًا كأوكرانيا، تمثل جبهة اختبار حاسمة.

فكما فشلت روسيا في تحقيق نصر سريع في كييف، يجب أن تفشل في استخدام الجنوب الليبي كمنصة لتهديد أوروبا واستنزافها من خاصرتها الرخوة.

 

ولذلك، فإن الاستقرار في ليبيا لم يعد مسألة ليبية داخلية، بل قضية أمن قومي دولي تتطلب تحركًا سريعًا، حاسمًا، وشراكة عميقة مع واشنطن والفاعلين الدوليين الجادين.

 

إن الذين يواصلون المراهنة على أدوات ما قبل 2011، يكتبون نهايتهم السياسية بأيديهم.

والقادم لن ينتظر المترددين.

 

*فيصل محمد الفيتوري

رئيس الائتلاف الليبي الامريكي

يمكنكم مشاركة المقال على منصتكم المفضلة
اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. نفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا رغبت في ذلك. قبولقراءة المزيد