نشأ هذا الشاب في آسفي، المدينة التي يتحدث عنها الجميع بحب ودفء لأهلها الطيبين والعفويين، لكن خطوات الحياة أخذته بعيدًا عن موطنه، ليكمل دراسته في فرنسا ويغوص في عالم القانون، دون أن يفقد شغفه الأول، الموسيقى والتراث.
هكذا تبدأ فصول قصة محامٍ شاب ينتمي لجهة عبدة، جمع بين الفكر القانوني والموهبة الفنية، ليصنع مسارًا مغايرًا يتحدى النمطية التي كثيرًا ما تُفرض على الشباب المغربي.
منذ سنواته الأولى، عُرف بحبه العميق للتراث الشعبي، خصوصًا آلة “الكمانجا”، التي لم تكن مجرد هواية عابرة، بل رافقته في مسيرته حتى بات يتقن العزف عليها، إلى جانب ممارسته لفن الرسم وكتابته الأدبية. ورغم أن مسيرته الأكاديمية والمهنية قادته إلى فرنسا، فإن جذوره ظلت حاضرة بقوة في اختياراته الثقافية والإبداعية.
في البداية راودتنا بعض الشكوك، لكن مصادرنا الموثوقة وبعد العديد من الاتصالات مع بعض زملائه المحامون، وكذلك بمسقط رأسه، تأكد لنا أن الشاب يعتبر الموسيقى والرسم والكتابة مجرد هوايات، لا يدرّ منها أي دخل مادي، بل يراها وسيلة نبيلة للتعبير ومخاطبة وجدان الشباب. وفي هذا السياق، تم مؤخرًا تنظيم حفل رسمي لتقديم كتابه المعنون بـ In Petto : Dans les méandres de l’âme، وذلك في إطار حفل توقيع أقيم بأحد الفنادق المصنفة بمدينة الدار البيضاء.
وخلال هذه المناسبة، فاجأ الكاتب الحاضرين بعرض فني خاص، إذ قدّم عرضًا من فن العيطة والشعبي، غنّى فيه وعزف على آلة “الكمانجا”، قائداً فرقته الموسيقية ومجموعة الشيخات، في مشهد أثار إعجاب الحضور وتصفيقاتهم الحارة.

ورغم الطابع الإنساني والثقافي لهذا الظهور، لم يسلم الشاب من أصوات مشككة، اتهمته باستغلال مواهبه كوسيلة لتحقيق الربح أو لفت الأنظار، وهي اتهامات لا تجد سندًا، خصوصًا أن كل المعطيات تؤكد أن مبادراته لا تخضع لأي منطق تجاري.
ولعل ما يثير الاستغراب، هو أن بعض الأصوات تفضّل أن تُبقي الشاب المغربي داخل قوالب الجمود، رافضة تقبّل فكرة أن يُبدع أحدهم خارج الإطار التقليدي. وكأن الفن بات يُحاكم، لا يُحتفى به، حين يصدر من محامٍ أو طبيب أو مهندس. وهذا رغم أن التاريخ المعاصر حافل بأمثلة لشخصيات بارزة جمعت بين المهنة والموهبة الفنية، مثل الطبيب المصري الشهير أحمد خالد توفيق الذي أبدع في الأدب، ورجل الأعمال والوزير السابق المغربي الناجح حفيظ العلمي الذي يعزف ببراعة على آلة العود، والطبيب والموسيقار العالمي أليخاندرو غونزاليس إنياريتو الذي درس الفلسفة وبرز في السينما، أو المحامية والكاتبة اللبنانية جمانة حداد، بل وحتى الرئيس الامريكي الأسبق كلينتون الذي كان مولوعا بالساكسوفون.
ويبقى السؤال المطروح: لماذا يحاول البعض دائمًا تعكير صفو كل مبادرة جميلة، وكأن في الإبداع تهمة، وفي الموهبة شبهة؟ ربما لأن الطاقات المضيئة تزعج العيون المعتادة على العتمة.