في قلب جبال سوس، حيث ترسّخت معالم العلم والتصوف، وُلد الحاج محمد الحبيب البوشواري الميلكي التانلتي، رجل اجتمعت فيه صفات العالم المجتهد والمجاهد الصلب. لم يكن مجرد فقيه يُدرّس العلوم الشرعية، بل كان أيضًا قائدًا روحيًا لا يخشى في قول الحق لومة لائم.
لم يكن الحاج الحبيب مجرد متفرج على الأحداث عندما بدأ الاستعمار الفرنسي يفرض قبضته على المغرب. فمع توقيع معاهدة الحماية عام 1912، أدرك أن الأمر ليس مجرد احتلال عسكري، بل استهداف لهوية البلاد وثقافتها. فكان أول ما فعله أن انضم إلى صفوف المقاومة مع الشيخ أحمد الهيبة، الذي تزعم حركة الجهاد في تيزنيت.
كما لم يكن الحاج الحبيب مجرّد داعم للحركة، بل كان أحد مستشاريها، وصاحب سرّ قائدها، ورافقه إلى مراكش، وظل متنقلًا بين جبال سوس داعيًا إلى الجهاد حتى وقعت جبال جزولة تحت قبضة المستعمر عام 1933. لم يغفر له الفرنسيون هذا الدور، فبدأوا بمضايقته بشتى الطرق، ووصل بهم الأمر إلى قصف مدرسته العتيقة في تنالت بالطائرات، محاولين كسر عزيمته، لكنه لم يتراجع. لجأ إلى منطقة آيت باعمران لفترة، قبل أن يعود إلى تنالت ويحوّلها إلى مركز علمي يقاوم الجهل كما قاوم الاستعمار.
بعد الاستقلال، ظل الشيخ الحاج الحبيب محافظًا على هيبته ورمزيته، حتى وصل صدى علمه وتأثيره إلى القصر الملكي. حينها، قرر الملك الحسن الثاني دعوته إلى قصره بأكادير. لكن الشيخ، أجاب مبعوث الملك الراحل الحسن الثاني بكلمات تنمّ عن عزة العالم وتقديره للمقام الملكي في آن واحد، حيث قال:
“قل لسيدنا إنني أحترمه وأقدّره، وأعتبره إمامًا للمؤمنين، ودعوته لي شرف كبير. فإذا كان حقًا يرغب في رؤيتي والحصول على بركتي، فليحضر إلى الزاوية هنا، فمن تواضع لله رفعه.”
فقبل جلالته آنذاك دعوة الحاج الحبيب، وزار الزاوية بنفسه، ليجلس في حضرة الشيخ، ويستمع إليه في لقاء ساده الاحترام والتقدير، حيث كان الحسن الثاني معروفًا بعلاقته الوطيدة مع علماء المغرب الكبار.
لم يكن الحاج الحبيب مجرد فقيه من فقهاء عصره، بل كان نموذجًا للعالم الذي يحمل سلاح العلم والجهاد معًا. واليوم، لا تزال مدرسة تنالت التي أسسها شامخة، يستلهم منها طلاب العلم قيم الثبات والعزة، كما يستلهم منها المغاربة جميعًا قصة رجل زاهد في ملذات الحياة.