مصطفى قطبي
لابد من الاعتراف أنّ الإنسان يميل بطبعه إلى القفز والطيران بأجنحة الخيال إلى عالم الغنى والأضواء والشهرة… فالقنوات الفضائية دغدغت مشاعر العديد من الناس وجعلتهم نمذجة لفنانين ومشاهير… وللأسف فكثيرون يظنون بأن الأدباء والفنانين… كائنات خصَّتها السماء بالسعادة والطمأنينة والهناءة والسعادة المشتهاة… لكن الظن يظلّ ظناً… لأن مشاهير المشاهير من الأدباء والفنانين عاشوا حياتين متناقضتين كل التناقض، الأولى بادية مرئية يتناقل الناس أخبارها السَّارة، والثانية حياة مضمرة يعيش ويلاتها ونكباتها الأدباء والفنانون أنفسهم… والسؤال الذي يقفز دون استئذان: هل مجرد شعرة واحدة هي من تفصل العبقرية عن الجنون؟ سنحاول تلمّس هذه المسألة بعبورنا السريع على بعض الأسماء المهمّة التي تركتْ بصمتها على جبين التاريخ الحديث، وكان أصحابها يعانون من أمراضٍ نفسيّة مزمنة انعكست في تصرّفاتهم سلوكاً حياتيّاً مضطرباً. وحتى لا أكون كالذي يحرث في الماء، أقدم للقارئ الكريم بعض نماذج المشاهير الذين عاشوا في الأضواء، ورحلوا في صمت بلا عزاء، بل منهم من لم يجد حتى فاتورة الدواء… والكثير منهم انتحر !؟

ولعلّ في سيرة مارلين مونرو، نجمة هوليود وقطتها المدلّلة… أجمل نساء الأرض… معشوقة الجماهير على اختلاف الشرائح… زوجة الكاتب العالمي ”آرثر مللر” وعشيقة الرئيس الأمريكي” جون كينيدي”… لعل في سيرتها ما يُشكل ظاهرة تراجوكوميدية للشهرة. ففي فجر الخامس من غشت 1962 وجدت ”مارلين” ميتة في فراشها، وكانت شبه عارية، بيدها سماعة الهاتف، وبجوارها زجاجة شبه فارغة لا توضح الدوافع والأسباب لانتحارها أو مقتلها.
السندريلا حسني: فقد أعلنت المحكمة البريطانية ًأن سبب وفاتها يرجع إلى الانتحار عن طريق إلقاء نفسها من شقة صديقتها ” نادية يسري ”. ورحيل ”سعاد حسني” في العام 2001 كان الأكثر غموضاً في تاريخ القتل المبهم للمشاهير، وتداول الإعلام وقتها أن ”سعاد حسني” كانت تتسول في شوارع لندن في أيامها الأخيرة، وقد وجدت جثتها ملقاة أسفل بناية كانت تقطن بها. ورغم أن تحقيقات ” سكوتلاند يارد ” ترجح فرضية الانتحار فإن الكثيرين يعتقدون أنها ماتت مقتولة.
داليدا: مطربة مصرية عانقت الأضواء وحلّقت في عالم الشهرة، اشتهرت بأغاني جميلة مثل ”كلمة وكلمتين … حلوة يا بلدي”، عاشت في بحبوحة طالما حسدت عليها، لكن مع ذلك فضّلت الانتحار في قمة نجوميتها بعد إصابتها بحالة اكتئاب. وداليدا مغنية خرجت من أحد الأحياء الشعبية في القاهرة لتسافر إلى فرنسا في العام 1956، وتحقق هناك شهرة واسعة لم تصل إليها أي مغنية عربية من قبل، لكنها ضاقت بالحياة، وسئمت الأضواء، واستسلمت لليأس، وسعت إلى النهاية. واستيقظ العالم في أحد أيام العام 1987 على خبر انتحارها بالتهامها عدداً كبيراً من الأقراص المنوّمة، ووجدت إلى جانبها رسالة تقول فيها: ”الحياة لا تُحتمل سامحوني”.
كاميليا: كانت من أشهر نجوم السينما المصرية وأكبرهن أجراً، ولأن جمالها كان سر نجاحها، فقد تنافس الجميع على حبها ومنهم الملك فاروق وأحمد سالم ويوسف وهبي وأنور وجدي وكمال الشناوي، وأيضاً رشدي أباظة ويوسف شاهين. وأصبحت فتاة أحلام كل الشباب العرب ونافست بقوة ليلى مراد. وفي صبيحة يوم من العام 1950 ركبت ”كاميليا” مع ستة ركاب آخرين الطائرة متجهة إلى فرنسا لمقابلة الملك، وبعد تحرك الطائرة بدقائق سقطت وسط الحقول وتفحمت الجثث. وبعد رحيلها تحولت كاميليا إلى أسطورة لاختلاف الناس حول كل شيء عن حياتها وعم مماتها، فالبعض أكد أن الحادث مدبر بواسطة أجهزة المخابرات المصرية بعد علمها أنها جاسوسة يهودية، والبعض الآخر أكد أن فاروق هو الذي أمر بإسقاط الطائرة بعد تأكده من أنها سربت أخبار علاقتهما إلى الصحافة.

للشهرة نعيمها وجحيمها، وهي متّهمة بريئة، مَن لا يحققها ولا يبلغها يهجُها، ويتّهمها بما ليس فيها، ومَن يبلغ فيها مراتب متقدّمة، أيضاً، يهجُها ويعتبرها سبباً في تنغيص عيشته ويحنّ إلى أن يكون نكرة يستمتع بمزايا النكرة. لذا فإن بريق الشهرة قد يعمي ويغرّر، وسرابها قد يفني ويضلّل. إنّ انتحار أديب أو شاعر أو مفكِّر أو فنان ممن يمتلكون من الشهرةِ والثروة ما يحلم به كثُرٌ من عشَّاقِ الحياة، يضطرُّنا للمرور على حياتهم وظروفهم مرور الراغب بمعرفةِ أسرار جنون هكذا نهايات.
الشاعر الأمريكي ”بو” كان يعاني من حالات اكتئاب متكرّرة وتوتر كبير وإدمان على الكحول ونوبات فقدان وعي وهلوسات سمعيّة وبصريّة أودت به إلى الموت وحيداً في 7 تشرين الأول 1849 بعد أن أهدى البشريّة نمطين من أكثر الأجناس الأدبية رواجاً هما: نمط قصّة الرعب، ونمط الرواية البوليسيّة بأسلوبها الاستدلالي الذي أوجد شخصيات كـ شرلوك هولمز مثلاً.
الفيلسوف ”نيتشه” كان مصاباً بجنون عظمة حقيقي وسلوك اضّطرابي عصبي ونوبات صداع شديدة جداً. كتب في رسائله قائلاً: ”بمرور شهرين سوف أغدو أعظم شخص في الكرة الأرضيّة” وقد وصلت به التّهيؤات حدّ تخيّل أنّ حارس المشفى هو ”بسمارك” شخصياً، ومن إبداعاته شخصية السوبرمان التي تقف فوق الأخلاق على جانبي الخير والشر التي ألهمت شخصيّة فاشية كـ هتلر للوصول إلى السلطة ومحاولة احتلال العالم أجمع، انطلاقاً من فكرة الأخلاق الجديدة التي ترى بأنّه فقط يحقّ للأقوياء والأصحاء أن يبقوا وينتصروا. كما أعلن ”نيتشه” في كتبه أيضاً عن فكرة موت الإله.
فنسنت فان غوخ: قد يكون، عدا إِبداعه الفني الفريد، أَكثر الفنانين شهرةً من حيث مرضه النفسي الذي ظل ينهشه حتى أَدَّى به إِلى الانتحار. كان يعاني في حياته القصيرة من قلق دائم واضطراب متواصل وانهيار أَعصاب مرير، حتى أَنه كتب مرة في رسالة إِلى شقيقه تيو: ”أَضع في لوحتي قلبي وروحي، وأُضيع عقلي فيما أَرسم”. وهو ما يظهر فعلًا في لوحاته، مناظرَ أَو طبيعةً صامتة أَو رسومًا ذاتيًّا. وضربات ريشته على اللوحة بأَلوانها وخطوطها، لا تدل على اضطراب في عقله بل على موهبة نادرة عجيبة. لم ينجح تجارياً ببيع لوحاته، لأَنه كان منصرفًا إِلى الرسم في إِيقاع محموم، والمرض النفسي ينهشه في شكل محموم، والفقر يرعبه في شكل محموم، ولم تندلع شهرته إِلَّا بعد سنوات من وفاته حتى بات اليوم من أَشهر الفنانين المؤَثِّرين في تاريخ الفن التشكيلي الغربي.
الروائي الأمريكي ”همنغواي” فقد شُخّص مرضه بالاكتئاب العميق والتّشوش العقلي والميول الانتحارية والأفكار الهوسية، وبأنّ ثمة من يطارده ويلاحقه، وقام بمحاولة انتحار لم تنجح، ولم يتخل عن نواياه هذه رغم خضوعه للعلاج النفسي فبعد خروجه من المشفى بأياّم أطلق النار على نفسه. قدّم للعالم أسلوباً أدبيّاً جديداً عكس فيه سلوك الأجيال الضائعة التي طحنتها الحرب بين رحاها، وكذلك خلقه لنموذج جديد للبطل المحارب الصارم المستمر بكفاحه حتى النهاية، تقول شخصيّة ”سانتياغو” في روايته ”الشيخ والبحر” الذي رفض أي نوع من أنواع المهادنة قائلاً: ”الإنسان لم يخلق لكي يهزم، الإنسان قد يدمّر، ولكنه لا يهزم”. وكان يقول أيضاً: ”لا يحق للرجل أن يموت وهو في الفراش، بل عليه أن يموت إمّا في المعركة أو بوساطة رصاصة في الجبين”.
”كافكا” كان يعاني من ”عصاب شديد مع وهن نفسي وحالات اكتئاب متكررة” وقد كتب في دفتر يومياته: ”إنها حياة مزدوجة ومرعبة ولا أرى إلا مخرجاً واحداً منها هو الجنون… لا أقدر على النوم، مجرد أحلام من دون نوم، عدم استقرار غريب في كياني الداخلي بالكامل، يا له من عالم فظيع ذلك العالم الذي أحمله داخل رأسي. فكيف يمكنني أن أتحرّر منه وأن أحرّره من دون تدمير”. توفي في الـ41 من عمره بعد أن أسّس ركيزة الاتجاه الجمالي في الأدب الكابوسي الذي أصبح من العلامات الواسمة للقرن العشرين.
”روسو” كان مصاباً بذهان ”المطاردة” حيث يعتقد دوماً بأن هناك من يحيك المؤامرات ضده فلم يكن يعيش في مكان واحد لمدة طويلة، ويرتاب بكلّ شيء حوله، وأهمّ الأفكار التي أهداها للبشرية: الإصلاح التربوي الخاص بتربية الأطفال حيث اقترح أسلوب التشجيع والملاطفة بدل الاضطهاد والعقاب وكان يعتقد بضرورة تحرير الطفل من الحفظ عن ظهر قلب والتسليم الميكانيكي بالحقائق الجامدة، كما مهّد بأفكاره لقيام مذهب الرومانسية لتي سيطرت على الفنون أواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كما قدّم فكرة الدولة المدنية، دولة القانون والديمقراطية التي شرحها في كتابه ”حول العقد الاجتماعي”.
سيلفيا باث: شاعرة وروائية وكاتبة قصة قصيرة أمريكية، تعد رائدة الشعر الاعترافي، كتبت الناقوس الزجاجي إحدى أشهر الروايات الأميركية الحديثة، توفيت منتحرةً في 1963 بعد تشخيصها بالاكتئاب السريري لفترة طويلة من حياتها. حصدت بعد وفاتها جائزة البوليتزر.
روبن ويليامز: الممثل الكوميدي (63 عاماً)، الحائز على جائزة أوسكار، اشتهر بسخريته وخفة الدم التي كانت تسري في عروقه لتنتقل بجرعة واحدة إلى المشاهد، كل ما نمتلكه مجموعة لا تنتهي من الذكريات والأفلام والضحكات البريئة، ويليامز الذي عرف عنه النكتة والحذاقة والذكاء. اختار لنفسه الرحيل بطريقة جمعت كل سخرية العالم والأقدار، فقرر الانتحار نهار الإثنين 11/8/2014، تاركاً لمعجبيه صدمة لا تنتهي وحزناً لا يفارق القلوب، وإرثاً سينمائياً زاخراً بأجود الأفلام التي لم تكن لولاه، وأملاً متجدداً باستمرار روحه المطلة عبر الشاشات التي خصصت في الوقت الحالي حيزاً كبيراً من وقتها لعرض أفلامه رثاء له وتمجيداً للراحل ولمسيرته الفنية الرائعة.
ألفيس برسلي: ملك ”الروك” الشهير، مازال الجدل مستمرا حول ظروف وفاته، هل انتحر أم مات؟ التحقيقات أكدّت أنّ رحيله المبكر جاء نتيجة لنهمه الشديد للطعام!
جورة ساندرز: الممثل البريطاني الشهير ونجم هوليود الشرير، توفي عن عمر 65 عاما، في أحد فنادق برشلونة الفخمة، بعدما عثر على جثته وبجانبها أربع زجاجات فارغة من مادة ”بينبوتال” ورسالة وداع تقول: ”أيّها العالم العزيز… أنا أغادر لأنّني اشعر بالسأم وأشعر أنّني عشت بما فيه الكفاية… ”. انتحر، لأنّه سئم حياته !
ماكسويل: إمبراطور صحافة الغرب وصاحب الأسهم في كبريات وكالات الأنباء وملك العقارات واليخوت التلفزيونية… وجد في يخت عاريا بعد سهرة، ليرحل العجوز عن ثمانين عاما متعفنا بماء البحر.
جين سبيرغ: ممثلة أمريكية شهيرة، لعبت كل الأدوار، وحازت على الجوائز والإعجاب، وملأ صوتها الآفاق، لكنها عانت لفترة من الزمن من جنون الاضطهاد. لقد رحلت بعد تناول جرعة مفرطة من المنوّم وتركت رسالة تقول: ”لا أستطيع العيش أكثر من ذلك مع أعصابي”.
جوني ويسمولر (طرزان): جوني ويسمولر قنبلة السينما الأمريكية على مدى ثلاثين عاما، وبطل سلسلة أفلام طرزان الشهيرة، ونجم الدورات الأولمبية في السباحة القصيرة. لقد حقّق نجاحا جماهيريا هائلا من تلك الأفلام، على جانب المكاسب المادية التي حقّقها والتي بلغت مائة ألف دولار عن الفيلم الواحد آنذاك. في شيخوخته لم يعد ” لجوني ويسمولر ” مكان على شاشة السينما، واضطر للعمل موظف استقبال في أحد النوادي اللّيلية في مدينة لأس فيكاس الأمريكية ليكسب لقمة العيش. قضى السبع سنوات الأخيرة في أحد المستشفيات الخاصة بالامراض النفسية والعصبية، ليفارق الحياة معدما فقيرا، بل مريضا بجلطة في المخ.
أدولف هتلر: الداهية وصاحب العقلية العسكرية الذي فجّر الحرب العالمية الثانية التي أهلكت 80 مليون إنسانا تقريبا، نهايته كانت في ملجأ مع عشيقته ”إيفا” ببرلين، حيث انتحر بعدما ابتلع السيانيد القاتل.
أخيراً وليس آخر، إن أعداد المشاهير ممن أقدموا على الانتحار كثيرة وغريبة الأسباب، لذلك نكتفي بهذه الأمثلة ليبقى السؤال: يا ترى هل هذه الظاهرة، ولدى المبدعين والفنانين تحديداً، تدلُّ على انعدام الشعور بالمسؤولية أم أنه الخوف من الاغتراب وخواء الحياة وبما يجعل المبدع في حالة عدم توازن تقي عقله مما تهدِّده به الأفكار السلبية؟