حوار : علي الأنصاري
في المنتدى الدولي العلمي الثاني: اقتصاد الحدود ورهانات الاندماج الإقليمي، والذي نظم بمعهد الدراسات الافريقية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط ، تطرق الاستاذ موسى المالكي ،أستاذ باحث في الجغرافيا السياسية والقضايا الجيواستراتيجية ومنسق ماستر الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط – جامعة محمد الخامس ورئيس المنتدى الإفريقي للتنمية والأبحاث الجغرافية والاستراتيجية ومدير المجلة المغربية للبحث الجغرافي ورئيس الجمعية المغربية للأبحاث الجغرافية والتنمية المجالية ، لموضوع الطرق الاستراتيجية البحرية والبرية بشمال غرب إفريقيا: فرصة لانبعاث اقتصادي واندماج إقليمي بمعية دول الساحل .
وفي الحوار التالي ، يلقي المالكي الضوء على المبادرات الملكية الاستراتيجية نحو افريقيا الغربية ، خاصة والقارة الافريقية عموما، وما تفتحه من خيارات تنموية امام بلدان تعيش أوضاع سياسية من قبيل نزاعات وصراعات عرقية.
واعتبر أن المبادرات الملكية ، تفتح امام دول افريقيا فرصة للاندماج الاقتصادي وتجاوز إشكاليات الحدود الموروثة عن الاستعمار.
نص الحوار:
شاركتم مؤخرا في ندوة حول اقتصاد الحدود المشتركة بمعهد الدراسات الافريقية بالرباط ،ما هو ملخص المداخلة؟
فتحت المبادرة الملكية الأطلسية، فرصة تاريخية أمام بلدان الساحل الحبيسة جغرافيا، وشمال غرب إفريقيا بما في ذلك موريتانيا والسينغال، نحو انبعاثة اقتصادية، وشراكة استراتيجية، يمكن أن تقود إلى اندماج إقليمي حقيقي، على أساس مبدأ رابح – رابح، وتكريسا للتعاون جنوب – جنوب داخل القارة الإفريقية، وتحديدا بشمال غرب إفريقيا.
إن بلدان الساحل خاصة الحبيسة منها، تشاد، النيجر، بوركينافاسو، ومالي وتنضاف لها موريتانيا والسينغال، وإن كانتا تتوفران على واجهة بحرية، إلا أنهما سوف تنتعشان من إحياء طرق استراتيجية جديدة برية وبحرية. طرق عنوانها الشراكة والتعاون والاندماج الإقليمي، ومبتغاها الاستقرار والازدهار ورفاهية شعوب المنطقة.
تتخبط مختلف هذه البلدان، منذ استقلالها في سلسلة معقدة من الإشكاليات والصراعات والتطاحنات، بل والميول الانفصالية أحيانا، وهو الشيء الذي يعكسه عدد الانقلابات أو المحاولات الانقلابية التي عرفتها، وهشاشة منظوماتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية، خاصة بسبب الإرث الاستعماري ونفوذ القوى الكبرى المستغلة لثروات المنطقة منذ عقود، دون أن تستفيد منها هذه البلدان، والأدوار السلبية التي تلعبها أنظمة إقليمية مهددة لاستقرار جيرانها.
ولعل قضايا، الهجرة الاضطرارية غير القانونية، وانتشار الجماعات المسلحة والميلشيات الإرهابية، والجريمة المنظمة العابرة لحدود ملغومة ومتداخلة موروثة عن المستعمر، وغير مسيطر عليها، سمحت طيلة عقود باستثمارها في كافة أنواع التهريب، بما في ذلك تهريب الأسلحة والاتجار فيها، وشكلت مهدا وموطنا للمتطرفين والمرتزقة والفارين من العدالة.
إن ملايين البشر، يعيشون في ويلات الفقر والبطالة والنزوح المستمر، كما أن ملايين الأطفال في سن التمدرس خارج المدارس، ومحرومون من التعليم ومن الخدمات الصحية والسكن الكريم. وتدفع وضعيتهم الاجتماعية الهشة، بقسم منهم إلى الارتماء أو الوقوع ضحية الانخراط في أنشطة اضطرارية خارج القانون.
لقد أثبتت المقاربات الأمنية والعسكرية لقوى الاستعمار القديم والجديد، فشلها الذريع وعواقبها الوخيمة على تاريخ ومصير ومستقبل المنطقة، وأضاعت عليها عشرات السنوات من زمن مهدور، وخلفت عشرات آلاف الضحايا والقتلى والجرحى.
لذلك، تمثل المبادرة الملكية الأطلسية، لربط بلدان الساحل المعنية بميناء الداخلة الأطلسي، ومواكبة مشاريع البنيات التحتية الكبرى، والربط السككي والطرقي والطاقي، فرصة ثمين أمام هذه البلدان، خاصة مع صعود نخب سياسية وعسكرية جديدة إلى قيادة تلك الدول، عملت على التملص من نفوذ المستعمر، وشق مسار السيادة، ووجدت مصالحها الاستراتيجية متقاطعة ومتناغمة مع الرؤية والمقاربة المغربية، كبلد إفريقي شقيق تربطها به علاقات تاريخية وثقافية وطيدة، وثقة متبادلة وتعاون مثمر.
إن المقاربة التي يقدمها المغرب، هي مقاربة التنمية والاستقرار والتكامل الاقتصادي والتعاون والتنسيق والاندماج الإقليمي، وتحقيق سيادة الدول واستقلالية قراراتها والتثمين الأمثل لثرواتها الطبيعية والبشرية المهدرة وتحصين وحدتها الترابية، وهي مسيرة غير هينة تحتاج ترافعا دوليا وتحصينا استراتيجيا.
ويمكن لكل من موريتانيا (محور الربط القاري شمال غرب / جنوب شرق) والسينغال (محور الترابط والتكامل شمال – جنوب)، لعب دور كبير ضمن هذه المحاور الاستراتيجية البرية والبحرية، والاستفادة من نجاحها في أفق تحقيق الاندماج الإقليمي المتدرج لدول الساحل وشمال غرب إفريقيا.
كيف ترون إشكالية الحدود في إفريقيا وما تسجله من نزاعات؟
علينا العودة بداية لجذور قضية الحدود في إفريقياـ والتي مهد لها التدافع بين القوى الاستعمارية الأوروبية الفرنسية والبريطانية والبرتغالية والألمانية والإسبانية والإيطالية، وما هو سيترجمه بشكل جلي مؤتمر برلين أو مؤتمر الكونغو سنة 1884 الذي هدف لتقسيم الجغرافيا والثروات الإفريقية بين الدول المحتلة، فانتقلت من السيطرة على السواحل إلى التوغل في عمق البلدان.
لقد عملت سكاكين القوى الغازية، على تفتيت وتشويه الجغرافيا السياسية للمنطقة وإحداث قطيعة مع التطور الشرعي والتاريخي، كما قامت على أنقاض كل من مجال نفوذ الدولة العثمانية، ودولة الخلافة الإسلامية في سوكوتو (شمال نيجيريا)، والإمبراطورية المغربية الشريفة، وغيرها من الأطر القائمة آنذاك وذات الامتدادات الجغرافية الواسعة.
وحدث أن مجموعة من الدول استعمرت من طرف بلدين في نفس الوقت (مثلا تقاسم المغرب بين إسبانيا وفرنسا وتدويل مدينة طنجة بتنسيق مع بريطانيا). وتم التعامل مع بعض هذه المستعمرات على كونها جزء لا يتجزأ من حدود الدول المستعمرة، فعملت على توسيعها على حساب جيرانها، أو إحداث دويلات لم يكن لها وجود سياسي قبل الاستعمار.
وبعد انفراط عقود الاستعمار خاصة، بعد الاقتتال الغربي والخسائر الأوروبية الجسيمة إثر الحرب العالمية الثانية، وتصاعد حركات المقاومة الوطنية والثورة ضد الاحتلال، بدأت إفريقيا في التخلص من الاستعمار العسكري المباشر، لكنها خرجت مثقلة بإرث خطير يتمثل في حدود ملغومة ومشوهة كان الباحث الأساسي على رسمها هو استغلال مواردها وثرواتها الطبيعية.
وسيطل هذا الوضع الجيوسياسي الجديد والمصطنع، سلسلة من الحروب (على سبيل المثال حرب الرمال، 1963) التوترات والنزاعات التي لازالت آثارها مستمرة إلى حدود اليوم، بما في ذلك في شمال إفريقيا.
هناك نوع من القناعة السياسية بأن مناقشات إشكاليات الحدود الموروثة عن الاستعمار تؤدي إلى إشعال حروب. هل برأيك يمكن تجاوز هذه المخاطر عبر الاستثمار المشترك للحدود؟
بطبيعة الحال، خلفت إشكاليات الحدود الموروثة عن الاستعمار، مستفيدين ورابحين بحكم الواقع رغم الافتقاد للشرعية، وفي الجهة المقابلة ضحايا، رغم توفرهم على الشرعية والروابط التاريخية والسياسية والقانونية والاجتماعية.
إن أي نقاش عن مراجعة جديدة منصفة للحدود، سيقود إلى احتدام التوترات وتصاعدها وربما انفجارها على شكل حروب حدودية ستكلف المنطقة الكثير. لذلك، يبقى الاستثمار المشترك للمزايا الاقتصادية للمناطق الحدودية، هو المقاربة الأمثل لرفع التحدي، لا وبل تطوير ذلك إلى إلغاء هذه الحدود أو تخفيفها عبر السماح بحرية تبادل البضائع والأشخاص والاستثمارات دون قيود في إطار اندماج إقليمي يشبه ذاك القائم في الاتحاد الأوروبي.
وقد كانت هنالك محاولات جادة في هذا الاتجاه، مثل تأسيس اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير 1989 بين قادة الدول المغاربية آنذاك (المغرب، الجزائر، ليبيا، تونس وموريتانيا)، لكنه ظل للأسف الشديد معطلا، بسبب تغير نزوعات القيادة الجزائرية بعد استبعاد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد واغتيال الرئيس الجزائري محمد بوضياف المتضامن مع مغربية الصحراء، عاودت العسكر السيطرة على الحكم ورفع شعار تصعيد استهداف الوحدة الترابية للمغرب، والاستمرار في تمويل وتسليح ميليشيا البورليساريو الانفصالية.
نسجل اليوم مؤشرات على محاولات جديدة، حيث تمثل مبادرة تأسيس اتحاد كونفدرالية دول الساحل الثلاثية التي تضم كلا من مالي وبوركينا فاسو والنيجر بارقة أمل في هذا الاتجاه. وقد تعامل المغرب بإيجابية كبيرة مع هذا المشروع، ويدعم كثيرا جهود القيادات الجديدة في سبيل تحقيق سيادتها والرخاء والازدهار لشعوبها.
المبادرة الأطلسية ودورها في تنمية التعاون الإقليمي ؟
تمثل المبادرة الأطلسية الموجهة لدول غرب إفريقيا المطلة على المحيط الأطلنتي، انخراطا استراتيجيا للمغرب في مشروع الاندماج القاري وتحقيق أهداف رؤية 2063 للاتحاد الإفريقي، واستثمار الاهتمام الدولي المتزايد بإفريقيا التي أضحت في قلب الاهتمامات العالمية كونها غنية بالموارد والثروات البشرية والطبيعة خاصة الطاقية والمعدنية.
وتنطلق المبادرة الملكية، من مشروعية جغرافية وتاريخية وديبلوماسية ودينية، ساهمت في بناء الحضارة الأطلنتية، وتنطوي على رد الاعتبار لإفريقيا التي عانت من الحملات الاستعمارية والاستغلال والاستنزاف المتعدد الأبعاد والتقسيم والتجزيء.
ويتوفر المغرب على العديد من المؤهلات التي تجعله قادرا على إنجاح هذه المبادرة المبتكرة، وفي مقدمتها موقعه الجغرافي الاستراتيجي الرابط بين القارات، بواجهتين بحريتين الأولى شمالا تجعله مشرفا على البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، والثانية غربا على المحيط الأطلنتي الذي يمثل واحدا من أهم المعابر التجارية في العالم.
ويضاف لذلك، عوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتطور البنيات اللوجستية والمينائية والخدماتية والصناعية المتقدمة، والموارد البشرية المؤهلة والعلاقات الاستراتيجية المتنوعة مع مختلف القوى الفاعلة على الساحة الدولية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ناهيك عن علاقاته التاريخية والروحية والاقتصادية المتينة مع بلدان الساحل وغرب إفريقيا.
إن المبادرة الملكية الأطلسية، هي تأكيد متجدد على تجذر العلاقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية بين المغرب ودول الساحل وغرب إفريقيا، كما أنها تمثل مدخلا جديدا ونوعيا من أجل حل نهائي ودائم لقضية الوحدة الترابية الوطنية وجعل الصحراء المغربية، منارة للتنمية الاقتصادية المشتركة، وقاطرة لانبعاث إفريقيا جديدة مستقرة ومزدهرة وذات سيادة.
كما أن مشروع خط أنابيب الغاز الاستراتيجي المغرب – نيجيريا الذي سيجمع 13 دولة وسيزود أوروبا، يمثل أولى ثمار هذه الجهود وقد بلغ مراحل جد متقدمة، خاصة بعد تأكد مصادقة قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في غضون شهر دجنبر الجاري، على اتفاقية التعاون من أجل بناء خط أنابيب الغاز الإفريقي الأطلسي، حيث سيطلق المغرب أولى مناقصات بناء هذا المشروع مع مطلع سنة 2025.