مصطفى قطبي
يبدو الحديث عن الهوية البصرية وبخاصة بالمدن المغربية أمراً كمالياً في ظل زحف المشاريع العمرانية، و الواقع يؤكد أن فترة طويلة مرت ولم يكن هناك اكتراث فعلي للحفاظ على هوية المدن التي دمرتها المشاريع العمرانية التي حضر فيها كل شيء إلا ما يتعلق بالحفاظ على الهوية، وعلى العكس ساهمت في تدمير هوية أحياء عريقة بمدن قديمة، يشكل فقدانها خسارة حقيقية لا يعوضها لا عمران ولا مال، وللأسف لا يوجد ما يؤكد حضور الدوائر المعنية بالحفاظ على الهوية والآثار في أي مشروع عمراني جديد، أو في مكان يتم هدم أبنية قديمة فيه، ولعل مراجعة بسيطة لواقع ما تم تؤكد أن خسارة المغرب كبيرة، بحيث في نظرنا لا تعوض، حيث لعب فيها الحضور الشكلي للدوائر المعنية دوراً كبيراً في دراسة المشاريع العمرانية المختلفة.
تعتبر المدن العتيقة في المغرب تراثا ثمينا، وتمثل أحد ركائز الهوية الثقافية والرمزية للخصوصية المغربية حضي عدد منها في بتصنيف اليونسكو، وتعود الجاذبية السياحية بشكل أساسي إلى هذه المدن، تشكل البنية التحتية لتنمية السياحية الثقافية للبلاد، كما تعد هذه المدن رصيدا نفيسا من الهندسة المعمارية لفن البناء والتشييد والترتيب، ففي تنوع أشكالها الهندسية ومواد بنائها يكمن غناها الجمالي، فيها يعكس عبقريتين كونها متلائمة مع وظيفتها وبيئتها المادية والمناخية. تضم هذه المدن عدد مهم من المنازل والمرافق دينية و محلات تجارية وحمامات وفوارات أثرية وغيرها، كما تحتوي على الأنشطة التقليدية… أما عن حالتها الراهنة فهي تعيش مرحلة حرجة، وأسوأ ما يحصل في هذا الجانب هو الأبنية التي تم تنفيذها في الأحياء القديمة، حيث قامت بدورها المطلوب في تشويه العمران القديم، وهدم المنازل العريقة، وتشييد بناء شاهق غير مسوّغ أبداً تشييده في تلك المواقع.
فأي جريمة هذه؟ وأي انتهاك يتم للتراث الثقافي والإنساني والهوية العمرانية المغربية؟ وكنتيجة حتمية لغياب الرؤية المعمارية الفنية الحقيقية المرتبطة بنشأة المدن المغربية، وغياب واضح لدور القوانين التخطيطية ولقصور البعض منها نظراً لقدمها، وعدم تحديث الكثير منها لتنسجم مع ما يحصل من تطورات في مجال العمارة وتوجيهها، تشوهت معالم المدن المغربية، وفقدت أهم ملامحها العمرانية لدرجة أنها أصبحت نسخة مكرورة وهجينة. والمؤكد أن بعض القوانين لها اليد الطولى في رسم شكل المدينة وتوجيه العمران بها، ولغياب الطابع الحضاري المميز للمدينة القديمة، التي كانت تمثل نموذجاً حضارياً وعمرانياً رائداً في تناسقها وتوافقها وتطورها وازدهارها، وكانت انعكاسا صادقاً للبيئة الحضارية التي سادت في كل مرحلة من المراحل التاريخية المتعاقبة على أرض المغرب.
اليوم بدأنا نشهد عملية تشويه للمدينة المغربية، وفقدانها لعنصر الهوية البصرية، وما يحز في النفس أنّ الآثار المغربية أصبحت في وضعية يرثى لها، وأظن أنه لولا الجانب السياحي لكانت هذه الآثار في خبر كان. فالآثار المندثرة أصبحت تشكو حالة الضياع، والآثار التي لا زالت حية بعد أن شهدت عملية “ترييف” في السنوات السابقة أصبحت اليوم محطة استيلاء وشراء من طرف الأجانب الذين حولوها إلى ملكيات خاصة على شكل “رياضات” أو دور الضيافة أو فنادق أو ملاهي لا يدخلها في الغالب إلا الأجانب، بينما هي ممنوعة حتى على مالكيها السابقين من المغاربة.
وهذا ما نلاحظه في كل المدن العتيقة التي استهوت أصحاب الأموال الأجانب في حين استهونها سكانها الأصليون وباعوها بأرخص الأثمان، وتبقى المسؤولية جماعية بين الذين باعوا هذه الأملاك التاريخية وبين الدولة التي لم تحاول حماية هذه الآثار بسَّن قوانين للمحافظة عليها ومنع بيعها لغير المغاربة. والعمارة المغربية تعرضت لهجمتين شرستين، تمثلت الأولى في عملية “الترييف”، والتي تزامنت مع الدخول الاستعماري وبنائه للمدن العصرية بجانب المدن التاريخية، والهجمة الثانية هي التي نعيشها اليوم مع العولمة التي تحاول القضاء على ما تبقى من التراث المعماري الأصيل، وذلك باعتماد كل الأشكال البنائية المستوردة، والتي لا تتلاءم بتاتا مع البيئة المغربية، من الاعتماد على الزجاج في البناء والتصاميم الغربية، في حين العمارة المغربية صالحة لكل زمان ومكان، وقد عرفت مجموعة من التطورات التي تم تكييفها مع الطبيعة، ومع نمو العقلية عند الإنسان المغربي. فالعمارة في آخر المطاف هي عبارة عن تراكم للتجارب الإنسانية بما يتلاءم والظروف الطبيعية والاقتصادية، فما يصلح لبيئة مغربية ذات مناخ متوسطي صحراوي لا يصلح للمناطق الأخرى ذات مناخ مختلف، وقد أكدت الدراسات أن التصاميم المعمارية والمواد البنائية التي اعتمدتها العمارة المغربية القديمة كان يعتبر نموذجا يحتدى به.
العولمة لم تترك خصوصية ثقافية متميزة إلا وتحاول أن تسيطر عليها وتمحوها من الوجود كذاكرة وطنية وحضارية، وهذا ما عرفته العمارة القديمة لأهم المدن المغربية، فالعمارة الحديثة بالمغرب من خلال تصاميمها تبدو أنها ضد الهندسة المعمارية التقليدية، وهي تتعامل مع الأبنية القديمة بصياغات فنية ابتكارية للبحث عن إيقاعات غير مألوفة وغير مستهلكة وغير مطروحة، ما يثير الدهشة لدى كل المختصين و المهتمين ويترك في أعماقهم الأثر المزلزل، حيث الركائز التي كونت التراث المعماري المغربي القديم، القائم على العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الفنون الكتابية والزخرفية والأرابسكية، تبدو في العمارة الحديثة مغيبة.
للأسف الشديد فقد أصبحت العمارة المغربية الحالية بدون هوية وغير صالحة بتاتا لمواجهة تقلبات الطقس والكوارث الطبيعية مثل الزلازل، وحتى مواجهة الأشعة النافذة والموجات الصوتية. لهذا نلح على الرجوع إلى الموروث المعماري الأصيل، الذي يعبر حقيقة عن الهوية المغربية ويتلاءم والظروف المحيطة بالمغاربة، وهذا يتطلب أمرين يتعلقان بالهوية والتراث الأول هو:
كيف نحمي المناطق التاريخية ضمن السور أو الشرائح الأثرية أو الجوار وهذا التراث التاريخي الأصيل، له جذور وهوية واضحة من خلال التصميم والواجهات والمفردات المعمارية، وحماية هذا التراث واجب على الجهات العامة والمهندسين وسكان المدينة. أما الأمر الآخر: هو معرفة التطور التاريخي للمدينة على المستوى المعماري، وما هي المفردات التي يجب أن ننطلق منها للحفاظ على السمات الخاصة التي تشكل هوية المدن المغربية وإظهارها بالشكل اللائق واستمرارها في أداء دورها من خلال معرفة الاحتياجات المطلوبة لذلك.
إنّ تغييب الحديث عن الهوية المعمارية، والتهاون في التعدي على التراث والنسيج المعماري المغربي، أمر مرفوض، فنسيج المدن القديمة في المغرب لا يوجد ما يماثلها على مستوى العالم، وتؤكد الدراسات الحديثة أن الحفاظ على النسيج القديم يتطلب الحفاظ على إبقاء السكان ضمنه وتأمين لوازم سكنهم، وما يساعدهم للبقاء في هذه المناطق، ويتقاطع الحفاظ مع الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية، وفي تقديرنا الخاص إنّ المطلوب الأول في مجال استمرار حماية النسيج المغربي القديم هو أن تلتفت الحكومة للمواطن والخدمات المطلوبة والنشاطات التي يحتاجها، ووجود مخططين ومعماريين يتطلب أن تكون جهودهم باتجاه ذلك في طريق تأكيد الحفاظ على الأثر والنسيج المعماري، فأسوأ ما تتعرض له الدور المغربية القديمة هو تركها دون حماية ودون سكان، والحياة ضمن المنزل تشكل عصب حمايته، مطلوب من الجميع عدم تكرار الأخطاء التي حصلت سابقاً وأن تتضافر جهود الجميع للحفاظ على النسيج العمراني، وعدم تكرار مسألة بناء أبنية شاهقة من حرم أبنية أثرية والمستقبل يتطلب نواظم لوضع مناطق حماية للأبنية الأثرية تأكيداً على الحفاظ على بقائها.
اكتشاف المزيد من مغربنا24 - Maghribona24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليقات ( 0 )