فالفساد وغسل الأموال وإساءة استخدام السلطة والعصيان تأتي ضمن قائمة اتهامات طويلة، تعكس حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تتخبط فيه البيرو منذ تسعينيات القرن الماضي.
ويعج التاريخ الحديث للبلد الجنوب أمريكي بقضايا بارزة، وقليل من الرؤساء من غادر قصر “كاسا دي بيزارو” الرئاسي في ليما دون المرور عبر المحاكم. ويكفي سرد حالتي أولانتا هومالا وبيدرو كاستيو للكشف عن ملآلات غوايات السلطة في ديمقراطية ناشئة.
فيوم الأربعاء الماضي، سقط أولانتا هومالا، الذي طالما مثل أمل اليسار في منطقة أمريكا اللاتينية، في قبضة العدالة التي أدانته بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة غسيل الأموال.
وانتخب أولانتا هومالا سنة 2011 بفضل برنامج قام على وعود بتحقيق عدالة اجتماعية بالبلاد، حيث رأى فيه أنصاره بديلا معتدلا لليسار الراديكالي الذي كان سائدا في أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، وبعد مرور نحو عقد من الزمن على انتهاء فترة ولايته، يعود اسمه ليتصدر صفحات الصحف بالبلاد، لكن هذه المرة بصفته سجينا.
وتساور القضاء البيروفي قناعة بأن الرئيس الأسبق للبلاد تلقى أموالا غير مشروعة تقدر بنحو ثلاثة ملايين دولار لتمويل مسيرته السياسية، مقابل خدمات غير محددة.
وقد تكون هذه المبالغ التي دفعت، خصوصا، من قبل شركة الإنشاءات البرازيليةالعملاقة “أوديبريشت” والحكومة الفنزويلية، قد استخدمت لتمويل حملات هومالا الرئاسية في سنتي 2006 و2011.
وقد صدر الحكم نفسه في حق عقيلته نادين هيريديا، السيدة الأولى سابقا والشخصية المؤثرة في دائرته السياسية. إلا أنها غادرت البيرو في يوم صدور الحكم، وقد منحت على الفور اللجوء السياسي في البرازيل، في قرار انتقدته السلطات البيروفية بشدة وينذر بإذكاء التوتر بين ليما وبرازيليا.
وتأتي هذه الإدانة بعد سنوات من التحقيقات، عرفت وضع أولانتا هومالا رهن الاعتقال الاحتياطي سنة 2017، قبل إطلاق سراحه في انتظار محاكمته. كما تكرس صورة بلد حيث يبدو فيه التناوب السياسي مقدمة لفصول قانونية صادمة تلوح في الأفق.
وبإدانة أولاتا هومالا، يستحضر البريوفيون قائمة رؤساء البلاد السابقين الذين مثلوا أمام القضاء، أبرزهم ألبرتو فوجيموري (1990-2000)، رجل الدولة البارز طالما لفت الأنظار ببلاده.
فبعد فراره إلى اليابان سنة 2000، تم تسليم فوجيموري من قبل السلطات الشيلية سنة 2007، وذلك بعد سبع سنوات من تركه السلطة، حيث تمت إدانته بالسجن لمدة 25 عاما بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في قضية تعرف باسم “مذبحة حي باريوس ألتوس وجامعة لا كانتوتا”. كما تمت إدانته بتهم تتعلق بالفساد واختلاس أموال عمومية.
وقد تم إطلاق سراح فوجيموري في دجنبر 2023 بعد عفو مثير للجدل أصدرته المحكمة الدستورية البيروفية، وتوفي في شتنبر الماضي عن عمر يناهز 86 عاما.
وتستحق قضية خليفته في كرسي الرئاسة أليخاندرو توليدو (2001-2006) أن تتحول إلى مسلسل هوليودي يمتزج فيه التشويق بالمكائد الدبلوماسية والعلاقات الدولية.
فبعد مسار طويل أمام القضاء في الولايات المتحدة التي لجأ إليها، تم ترحيل توليدو إلى بلاده سنة 2023 لمواجهة اتهامات بالفساد. وفي أكتوبر 2024، أدان القضاء البيروفي توليدو بالسجن لمدة 20 عاما و6 أشهر، بسبب تهم تتعلق بتلقي 35 مليون دولار كرشاوى من مسؤولين بشركة “أودبريشت”، مقابل الحصول على صفقات عمومية.
وتبدو قضية آلان غارسيا، الذي تولى رئاسة البلد الجنوب أمريكي خلال فترتين منفصلتين (1985ـ 1990) ثم 2006/2011)، أكثر مأساوية.
فبينما كانت الشرطة تعتقله في إطار قضية فساد أخرى تورطت فيها شركة “أودبريشت”، ورد أن غارسيا انتحر في أبريل 2019.
وفي رسالة وداع دخلت التاريخ السياسي البيروفي، أصر آلان غارسيا على براءته من فضيحة الفساد التي كان على وشك إلقاء القبض عليه بسببها، قبل أن يطلق رصاصة في رأسه، بحسب الشرطة.
ولم يشد الرئيس بيدرو بابلو كوتشينسكي (2016ـ 2018) عن هذه القاعدة، بعد ولوجه بدوره المحكمة كمتهم.
وبدا كوتشينسكي مجبرا على الاستقالة بسبب التواطؤ المزعوم مع شركة “أودبريشت” أيضا. وهو الآن قيد الإقامة الجبرية وتستمر محاكمته بتهمة تتعلق بغسل الأموال.
ويعد كوتشينسكي رابع رئيس دولة بيروفي سابق يدفع ثمن الصلة بالشركة البرازيلية العملاقة، التي بات اسمها لصيقا بفساد واسع النطاق في أمريكا اللاتينية.
والمصير ذاته لقيه مارتن فيزكارا (2018-2020)، الذي مثل أمام القضاء للمرة الأولى في أكتوبر الماضي للرد على اتهامات بالفساد نفاها بشدة، مدعيا أنه “لم يسرق فلسا واحدا”.
ويتهم المدعي العام الذي كان طالب بإدانة فيزكارا بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة تلقي رشاوى مقابل منح عقود عامة عندما كان حاكما لمقاطعة بجنوب البلاد.
ولعل أحدث حالة لرؤساء سابقين انتقلوا من القصر الرئاسي إلى ردهات المحاكم هي حالة بيدرو كاستيو، الشخصية المثيرة للجدل والتي أصبحت رمزا للفوضى المؤسساتية في البيرو.
وكان كاستيو مدرسا في المناطق القروية ونقابيا. وانت خب سنة 2021 على أساس برنامج شعبوي.
وفي السابع من دجنبر 2022، وبينما كان الكونغرس يستعد للتصويت على عزله بسبب “عدم الأهلية الأخلاقية”، أعلن بيدرو كاستيو عن حل الجمعية الوطنية (البرلمان) من جانب واحد، وتشكيل حكومة طوارئ، وفرض حظر للتجول، في قرار افتقد لأساس دستوري، ما أدى إلى سقوطه على الفور.
وبعد إقالته من طرف الكونغرس وتخلي محيطه عنه، ألقي القبض عليه بينما كان يحاول الوصول إلى السفارة المكسيكية لطلب اللجوء. ومنذ ذلك الحين، ظل محتجزا في سجن شديد الحراسة، إلى جانب توليدو، ومنذ الأربعاء الماضي، إلى جانب هومالا.
وتلاحقه المحكمة بتهم عدة منها التمرد وإثارة الفتنة والفساد، علما بأن عهده الرئاسي صمد بالكاد 17 شهرا.
هي إذن قضايا متتالية لرؤساء سابقين أمام المحاكم، وحتى وإن لم تجد لها صدى واسعا في الأعمدة القانونية للصحافة البيروفية، فإنها تعمل، بالمقابل، على تأجيج أزمة الشرعية داخل مؤسسات البلاد.
وتظل البيرو حتى اليوم، واحدة من البلدان القليلة في أمريكا اللاتينية حيث مثل جميع رؤساء القرن ال20 تقريبا أمام القضاء، وحيث يبدو أن تولي أعلى سلطة بالبلاد يقود، حتما، إلى ما وراء القضبان.