مصطفى قطبي
يثير الحديث عن المال العام بالمغرب الكثير من الحساسية، والدهشة، والانفعال، هذه الأهمية التي يشكلها المال العام هي التي تضع له هذه المكانة في وجدان الناس على الرغم من مرور الزمن، وتوالي السنين، وتؤصل بعض الأمثال الشعبية حقيقة النظرة الموضوعية إلى المال العام، وهي نظرة على قدر كبير من الأهمية، ذلك أنها تستحضر شيوع الإهمال في حقيقة المحافظة على المال العام منذ ذلك الزمن البعيد الذي يؤرخ لميلاد هذه الأمثال الشعبية، ومن هذه الأمثال: ”المال السايب يعلم السرقة”، و”مال عمك ما يهمك”، وغيرها من الألفاظ التي تقزم من حجم الأهمية التي يمثلها المال العام، ولعل ذلك مرده الى أن هذا النوع من المال تحكم العلاقة بينه وبين من يتعامل معه مستوى الأمانة والإخلاص الذي يتحلى بهما الطرف الآخر، هذا قبل الاحتكام إلى القانون الذي يشدد بلا شك في مسالة التعامل مع المال العام، ووجود مثل هذه الأمثال وتربعها في ثقافة الإنسان البسيط يعكس حقيقة تاريخ المال العام، وحقيقة مشروعية كموضوع مهم في حياة الناس، وحقيقة بساطة التعامل معه أيضاً كجانب آخر عند الحديث عنه، او عند وضعه موضع التقييم.
وبغض النظر عن هذه الصورة النمطية المتناسخة منذ ذلك الزمن البعيد فيما يخص التهاون في مسؤولية المال العام، وكيفية النظر إلى أهميته المادية، كمادة متداولة، أو المعنوية كأخلاق حاكمة بين الطرفين، أو التعامل معه على أنه ملك صاحبه في لحظة تبادل المنفعة بين الطرفين، تنحو المسألة إلى المساءلة الذاتية التي تقر بحساب ”مثقال ذرة”، ومعروف هو ضآلة الوزن الذي تمثله ”الذرة”، هذا المخلوق الذي لا يكاد يرى، حيث تدوسه الأقدام لضآلته، فأيما عاقل يدرك مستوى المسؤولية في ”مثقال ذرة” لا شك أنه سوف ينأى بنفسه بعيداً عن أي مظنة من شأنها أن توقعه في هذه المسؤولية التي تقاس بـ ”مثقال ذرة”، ولذلك فهناك الكثيرون من الناس ينأون بأنفسهم عن الوقوع في شباك المال العام، سواء بقصد أو بغير قصد، حتى في أبسط الأمور، ويأتي قسم ”اليمين القانونية” في الإدارة الحديثة، كأحد الأدوات الضابطة، والمعززة للضمير الحي الموكول عليه الكثير من المهام، ومنها المحافظة على مسؤولية المال العام.
وتخضع مسألة ”من ينصف المال العام” هنا وفق الوعي العام الذي يسود سلوك الناس في المحافظة عليه، فإن بني المجتمع على احترام المال العام، والمحافظة عليه، فإنه سيكون هناك شبه إجماع لأهمية المال العام، وإن غيب المجتمع هذه الأهمية انعكاساً لتعامله المفرط لحقوق المال العام، فإنه من الصعوبة بمكان استحضار الوعي الجمعي للمحافظة على المال العام في تصرفات كافة الأفراد بلا استثناء، وإعطائها المساحة الكبيرة لأهمية المحافظة عليه، إذن والحالة هذه لا بد من بناء قاعدة متينة في هذا الجانب، وتأصيلها وتقويتها باستمرار من خلال الممارسة العملية التي تشمل حتى استخدام عوامل الردع لمنع الاقتراب من المال العام، كاستخدام العقاب الجزائي، وذلك للوصول إلى ترسيخ هذه الأهمية.
فعلى سبيل المثال كيف تطلب من فرد أن يحافظ على المال العام، وهو في المقابل عايش والده، مثلا، يستخدم سيارة المؤسسة التي يعمل فيها لمصالحه الخاصة، ويوظفها توظيفاً خاطئاً غير ما وجدت له، وهو الاستخدام الوظيفي فقط، وبالتالي يفترض أن تكون خارج التغطية، فيما بعد الدوام الرسمي؟ أو كيف يمكن أن تترسخ أهمية المال العام في نفسية تلميذ في الصفوف الأولى والمتوسطة، وفي المقابل يأتي أستاذه ليطلب منه أن ينسخ لعدد التلاميذ الصف مادة معينة وذلك عن طريق والده ”الموظف” الذي يتولى هذه المهمة عنده في مكتب المؤسسة التي يعمل فيها، أو كيف تتولد أهمية المال العام حيث ترى مسؤولا يرفض تذكرة سفر حجزت له على مقاعد الدرجة السياحية، وهو يريدها في درجة رجال الأعمال، أو موظف صغير يستطيع أن ينجز لك معاملة تعرقلت عند مسؤوله الأكبر، لسبب أو لآخر، هذه أمثلة بسيطة لمسألة ترسيخ القناعات في مسألة المحافظة على المال العام، وفي واقع الناس من الأمثلة ما تشيب له الولدان، فهل نقرأ فاتحة الكتاب على المال العام في ضمائر كثير من الناس؟، ويسجل الواقع الذي نعيشه الكثير من السلوكيات التي تحاول أن تستفرد بالمال العام، وتمتصه حتى الثمالة، كما يقال، وهذه السلوكيات تستحضر ذات المثل الشعبي: ”مال عمك ما يهمك”، أو ”المال السايب يعلم السرقة” بالإضافة إلى تغلغل شعور غريب لدى البعض وهو أن حرمان الفرد من التمتع بخدمة معينة يريد تعويضها من خلال التحايل على المال العام، في صورة مبتذلة تعكس ضعفاً واضحاً لشخصية هذا الفرد الذي يفكر بمثل هذه التفكير البسيط، لا والبعض يقول لك: ”هذا مال الحكومة”، وكأن الحكومة فرد ظالم يجب القصاص منه، أو معاقبته على الذنوب التي يقترفها في حق الآخرين.
لا شك أن هناك إشكالية في مسألة فهم المال العام، وهذه الإشكالية هي التي تقود إلى مختلف السلوكيات الشاذة في التعامل معه، وإنزاله هذا الموضع الغريب، وكأنه بلا كيان، أو حدود، تعمل على صد المتطاولين عليه في كل زمان، ومكان، وعند كل الشعوب بلا استثناء، إذن والحالة هكذا يبقى تطبيق نصوص القانون هي الفاعل الحقيقي في المحافظة على المال العام، فهي المخولة من قبل القضاء، ومن قبل المجتمع أيضاً لكي تنتصر للمال العام، وتعيد له حقوقه المهدورة، وحدوده المنتهكة، وذلك من خلال قدرتها الحاكمة في إيصال المنتهكين للمال العام إلى منصة المحاكم، وأخذ الحق منهم، في صورة من العدالة دون مداهنة لا لقبيلة، أو أسرة، أو منصب، الجميع يحتكم إلى نصوص القانون بلا استثناء لا مجاملة طرف على طرف آخر، وبصورة تعكس التكافؤ في إعطاء المنازلة، والحجج، والرضى بما تؤول إليه الأحكام فيما بعد، عندها يتحول القانون إلى سلوك ممارس، والوصول إلى هذا السلوك غاية تصبح في حكم الوجوب، نعم قد تحتاج هذه الثقافة إلى وقت طويل، وقد تمتد القناعة حتى تترسخ إلى أجيال لتؤتي ثمارها، ولكن أي مجتمع ينشد الحرية، والتوازن في عواطفه وسلوكه لا بد أولاً أن يحقق مبدأ التعامل الصادق، والعادل للمال العام.
هل هذه مسؤولية فردية، أو أسرية، أو مجتمعية، أو مؤسسية، في تصوري كل القوى مطالبة بتحمل هذه المسؤولية، ولا بد أن يصل أبناء المجتمع إلى هذه الغاية في يوم من الأيام، قد يكون في البداية بقوة القانون، لكن بعد ردح من الزمن سيتحول هذا الردع إلى ثقافة يقرّها كل فرد في المجتمع، وهي أن المال العام مال الجميع، وهو مسؤولية الجميع، وليس مسؤولية مؤسسة، أو مجموعة من الناس تجمعهم مصلحة معينة، تظل محكومة لفترة معينة، فهذا الوجوب مسؤول عن ترسيخه جميع المؤسسات الرسمية منها، أو مؤسسات المجتمع المدني، أو علماء الدين، أو رجال القانون، أو قادة الرأي، وهذا مطلب لا يمكن الرجوع عنه.