قال المفكر والأكاديمي حسن أوريد إن “الناس تتماهى بالفطرة مع السياسة، وتكاد تكون معها في علاقة انصهار”، مذكّرًا بأن “العالم الذي نعرفه قد انتهى مع سقوط جدار برلين”، ومع سقوطه “انتهت المنظومة القديمة مع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية” على المستويين الإقليمي والعالمي.
جاء ذلك خلال محاضرة ألقاها أوريد بعنوان “التغيرات الجيوسياسية وتأثيرها على المغرب”، والتي نظمها “منتدى كفاءات إقليم تاونات” واحتضنتها إحدى قاعات مدينة سلا، وسط حضور نوعي، والتي أدارها نجيب الزروالي، الوزير السابق للتعليم العالي والسفير الأسبق.
حيث أكد أوريد أن “العالم تخلص من الالتزامات والمعاهدات الدولية”، وأصبحنا أمام واقع جديد “لا يعترف إلا بالقوة”. وأوضح أنه في الوقت الذي اعتقدت أوروبا أنها “حصّنت نفسها وتعافت من داء الحروب، وجدت نفسها تنغمس مُكرهة في أتونها”، بعدما كانت تعتقد أن “الأمر لا يهم سوى جنوب الكرة الأرضية”. كما أضاف أن أوروبا كانت تظن أن ما حدث في يوغوسلافيا “لا يعدو أن يكون نشازًا، ليس إلا”.
واعتبر أوريد أن “حدود الدول لم تعد محصنة كما كانت”، مشيرًا إلى أنه في حرب الخليج الثانية “تم تأديب صدام حسين لأنه خرج عن المألوف وتهجّم على الحدود بالقوة”، وهو “ما لم نلمسه في الحرب الروسية الأوكرانية”. وأضاف أن هذه الحرب شهدت لأول مرة في التاريخ الحديث “التلويح والتهديد باستعمال السلاح النووي”، بعدما كان هذا النوع من الأسلحة مجرد أداة للردع في إطار توازن الرعب بين القطبين التقليديين.
كما تطرق إلى الحدث الأبرز الثاني، وهو حرب غزة الأخيرة، أو ما عُرف بـ “طوفان الأقصى”، موضحًا أن هذه الحرب “اكتست صفة حرب دون مراعاة لضوابط القانون الدولي”. واعتبر أن هذا الحدث بحد ذاته عبّر عن “وحشية في استعمال القوة”، مشيرًا إلى أن تداعياته تجاوزت النطاق الجغرافي للشرق الأوسط، حيث أصبحت غزة بمثابة حديقة خلفية للحرب الروسية الأوكرانية، مما منح روسيا فرصة لإتمام ترتيباتها العسكرية في المنطقة.
وانتقل أوريد بعد ذلك إلى الحديث عن الظاهرة الثالثة، والمتمثلة في عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، معتبرًا أن ذلك يؤسس لظهور “ترامبية جديدة”. وأوضح أن هذه الترامبية تتبنى رؤى جديدة تعكس المد الشعبوي اليميني الأكثر تعقيدًا في العصر الحالي، مشيرًا إلى أن الأمر لم يعد يقتصر على الاستحواذ على الموارد الطبيعية، بل وصل إلى المطالبة بالأرض نفسها. واستحضر في هذا السياق أحداثًا مثل محاولة “وضع اليد على جرينلاند”، ومسألة “الترحيل القسري للفلسطينيين من قطاع غزة”، بالإضافة إلى “التخلي عن الحليف الأوكراني، ومعه بعض الحلفاء الأوروبيين”. وأكد أوريد أن هذه السلوكيات تمثل تجاوزًا للقانون والأعراف الدولية، مما يؤكد صعود “قومية جديدة”.
كما شدد المحاضر على أن “جدية الموضوع تستدعي استحضار مفاتيح جديدة لفهم ما يجري من حولنا”، مؤكدًا أن “الأمر ليس علمًا دقيقًا، وأنه علينا الحفاظ على Discipline”، مشيرًا إلى أن الجيوسياسية والجيو بوليتيك يختلطان عند العامة مع الجيو-استراتيجية، رغم اختلافهما. وشرح أن “الجيوستراتيجية هي تأثير الجغرافيا في المجال، بينما الجيوبوليتيك هو تأثير السياسة في الجغرافيا، من خلال تصور يفرزه السياسي”. وأوضح أن “الجيوستراتيجية تهم العسكريين بالأساس، حيث قد ظهرت جذور المصطلح في القرن التاسع عشر مع بسمارك والوحدة الألمانية”.
أوضح كذلك أن الإنسان كائن حي، ويمكنه تغيير الفضاء وإيجاد مناطق عازلة، مشيرًا إلى أن ألمانيا ارتأت أنها بحاجة إلى فضاء خارجي، ومن حقها التوسع، باعتبار أن أوروبا وآسيا تشكلان “قلب العالم ومحوره”. فيما رأت الولايات المتحدة الأمريكية أن من الضروري الحد من هذا المركز المسمى أوراسيا، بداية ضد هتلر، ثم بعده ستالين.
وأكد أوريد أن العالم اليوم يشهد تحولًا نحو “عالم قديم-جديد” مع دخول الصين كفاعل أساسي، معتبرًا أن الصين تشكل “تحديًا وجوديًا” وفق رؤية ترامب. واستحضر مقولة شهيرة: “إذا كانت روسيا عاصفة، فإن الصين هي تغيير مناخي”، مؤكدًا أن هناك تغييرات حتمية ستعيد تشكيل خريطة العالم مستقبلًا.
كما تطرق إلى موقف المغرب، مؤكدًا أنه “ساير بذكاء ظروف الحرب الباردة، ومع سقوط جدار برلين أصبح أكثر انفتاحًا، فيما زادت أهمية المقاربة الأمنية بعد هجمات 11 سبتمبر”. وتحدث عن القضية الوطنية الأولى للمغرب، والمتمثلة في صحرائه ووحدته الترابية، مشيرًا إلى تداعيات الحرب في غزة التي تدعمها إيران، وسقوط بشار الأسد في سوريا، وتأثير ذلك على البلقان والشرق الأوسط، مما انعكس سلبًا على الجزائر. وأكد أوريد أن خيار الحرب بالنسبة للجزائر كان واردًا، لكنه “لم يكن أبدًا في صالحها”.
وتطرق ايضا إلى “الهزائم الدبلوماسية المتكررة” التي مُنيت بها الجزائر في المحافل الدولية، مما دفعها إلى إعادة ترتيب أوراقها، خصوصًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأت تتخلى تدريجيًا عن توجهها العروبي، وتسعى إلى مغازلة واشنطن، وهو ما عبّر عنه السفير بوقادوم بإعلان استعداد الجزائر لبيع معادنها النفيسة للولايات المتحدة.
كما طرح أوريد إشكالية سياسية حول كيفية تعامل المغرب اليوم مع ثلاثة فاعلين أساسيين في العالم: الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، والصين. وأوضح أن بعض الدول الآسيوية وجدت نفسها “بين فكي كماشة”، واضطرت إلى التعامل مع النقيضين، كما هو حال سنغافورة مع أمريكا والصين. واعتبر أن بعض الدول اختارت استراتيجية “الملاءمة” وخلقت نوعًا من التوازن.
وشدد المحاضر على أن “الخيار الأطلسي الذي أطلقه الملك محمد السادس يبقى هو الخيار الاستراتيجي”، مؤكدًا أنه يمكن للمغرب أن يستثمر فيه بفعالية. ودعا إلى ضرورة استمرار العلاقات مع الدول التي تربط المغرب بها مصالح اقتصادية، وتعزيز الحضور في الساحة العربية، خاصة مع دول الخليج التي أصبحت “طرفًا مهمًا في المعادلة الدولية”. كما أكد على أهمية “تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية”، مشددًا على ضرورة “استخدام مفاتيح جديدة لفهم العالم الجديد والتعامل مع متغيراته بمرونة وذكاء استراتيجي”.