في مهمة أشبه بالتصويب نحو هدف متحرك، يشكل تدقيق الحقائق عبر شبكات التواصل الاجتماعي تحديا غير هين، تزيد من صعوبته سرعة تدفق الأخبار، لا سيما الزائفة، عبر هذه الشبكات وتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي.
فبعد أن سعت شبكات التواصل الاجتماعي لإزاحة وسائل الإعلام التقليدية -ونجحت في ذلك في أحيان كثيرة- عن عرش احتكار مصادر الأخبار، تواجه منصات هذه الشبكات تحديا رئيسيا يتمثل في السيطرة على تدفق الأخبار الزائفة، التي تؤثر على مصداقية هذه الشبكات.
تسائل هذه التحديات المطروحة دور وسائل التواصل الاجتماعي، وما تقدمه من محتوى رقمي، مستقبل صناعة الأخبار وسبل تحري دقتها، لاسيما في ظل تسارع وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي، الذي يطرح رهانات أخلاقية وقانونية ومعرفية.
++ باسم حرية التعبير
خلال السنوات الأخيرة، عمدت العديد من شبكات التواصل الاجتماعي، التي أضحت تنافس بشدة أدوار وسائل الإعلام التقليدية بل وتهدد وجودها أحيانا، إلى تطوير برامج خاصة بتدقيق المحتوى الذي تبثه، بعد انتقادات عديدة طالت كبرى شركات التكنولوجيا بشأن مصداقية المحتوى الرقمي.
ازدهرت هذه الخاصية، القديمة قدم الممارسة الصحافية، باعتبارها درعا في مواجهة سيل الأخبار الزائفة والصور المفبركة، التي تؤثر بشكل كبير على تلقي مستخدمي هذه الشبكات للمعلومات.
هذه البرامج تكتسي أهمية متزايدة في فترات الحملات الانتخابية، حيث تشكل المعلومات الدقيقة رهانا حاسما في التأثير على اختيارات الناخبين. كذلك، اضطلعت برامج التحقق من الأخبار وكشف المعلومات المضللة والصور المفبركة بدور هام خلال فترة الجائحة الصحية، مع انتشار المفاهيم المغلوطة حول كوفيد-19 وتصدي وسائل الإعلام التقليدية والحديثة لسيل الأخبار الزائفة.
غير أن توجه عدد من هذه الشبكات مؤخرا نحو إلغاء هذه الخاصية، بحجة تشجيع حرية التعبير وتخفيف قيود “الرقابة” المفروضة على المحتوى يجدد طرح السؤال حول كيفية تدبير سياسات المحتوى الرقمي من أجل التصدي للانتشار السريع للأخبار الزائفة والمعلومات المضللة المتداولة على نطاق واسع.
على خطى شبكة (إكس)، أعلنت شركة (ميتا) المالكة لشبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وإنستغرام وثريدس)، بدورها، قرارها إلغاء خاصية التحقق من المحتوى الذي تبثه هذه الشبكات في الولايات المتحدة.
يروم برنامج تدقيق الحقائق الذي اعتمدته مجموعة (ميتا) منذ سنوات مكافحة المعلومات المضللة أو الكاذبة التي يتم تداولها على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي للمجموعة (فيسبوك وإنستغرام وثريدس)، بمساعدة وسائل الإعلام الشريكة.
وباستخدام خاصية “التحقق بواسطة طرف ثالث” – الذي يضم حوالي 80 منظمة- تعاونت (ميتا) مع وسائل الإعلام الشريكة منذ 2016 لتحديد وتمحيص وتقييم المعلومات الكاذبة الرائجة على مختلف شبكاتها.
يقوم شركاء (ميتا) بإنجاز مقالات تدقيق الحقائق (Fact Checking) مقابل أجر، التي تستخدمها الشبكة على منصاتها. هؤلاء الشركاء معتمدون من قبل الشبكة الدولية لتقصي الحقائق، التي تسهر على التحقق من احترامهم لقواعد الجودة في مجال التحرير، والحياد، والاستقلالية.
وتقوم وسائل الإعلام الشريكة لـ(ميتا) بنشر مقالتها على مواقعها قبل إدخال عنوان “URL” الخاص بها في واجهة (ميتا).
على لسان رئيسها التنفيذي، مارك زاكربرغ، عللت الشركة قرار إلغاء برنامج التحقق من المحتوى بالرغبة في تعزيز حرية التعبير وتقليل القيود المفروضة على المضامين الرقمية. وعوض الاستعانة بمدققي المضامين التقليديين، تعمل الشركة على تفعيل خاصية “ملاحظات المستخدمين”، الشبيهة بالنظام الذي تعتمده منصة (إكس)، والتي تتيح للمستخدمين تقديم السياق وإدراج ملاحظات مرتبطة بالمنشورات المثيرة للجدل، بشكل تطوعي.
++ سؤال المصداقية
ترصد عدد من الأبحاث إيجابيات هذا النظام. إذ يرى العديد من رواد شبكات التواصل الاجتماعي أن المستخدمين الآخرين أكثر جدارة بالثقة من مدققي الحقائق المهنيين. كما تقل نسبة إعادة مشاركة المحتوى الذي يحصل على ملاحظة سلبية.
في المقابل، يرى باحثون آخرون أنه لا يمكن لهذه الخاصية أن تحل محل مهنيي تدقيق الحقائق. إذ أن إدراج الملاحظات يستغرق وقتا قبل أن تصبح متاحة للجمهور، وأحيانا بعد أن يتم تداول المضمون بشكل كبير فيصير من الصعب احتواء الضرر الناجم عن الترويج لأخبار زائفة أو صور مفبركة.
يأتي إعلان شركة (ميتا) أياما قبل تنصيب دونالد ترامب رسميا الرئيس الـ47 للولايات المتحدة في 20 يناير، وعقب انتقادات طالتها بتشجيع سياساتها المرتبطة بتدقيق المحتوى على التحيز لجهات على حساب أخرى، وبتقييد حرية التعبير التي تشكل جوهر الفضاء الرقمي.
يقر الرئيس التنفيذي لـ(ميتا) بأن منظومة التحقق من الحقائق، التي تم إرساؤها قبل سنوات، شابتها العديد من النواقص، وكانت “تخضع للتسييس”، كما أدت إلى “تقليل منسوب الثقة عوض تحسينها، خاصة في الولايات المتحدة”.
ويؤكد الملياردير رغبة الشركة في “العودة إلى الجذور، والتركيز على تقليل الأخطاء وتبسيط السياساتنا واستعادة حرية التعبير على منصاتنا”.
في المقابل، يؤكد زاكربرغ، ستواصل (ميتا) التصدي بشكل قوي للمضامين المرتبطة بالمخدرات والإرهاب واستغلال الأطفال.
في تعقيبه على هذا الإعلان، رحب الرئيس المنتخب دونالد ترامب بهذا القرار، مصرحا أنه ساهم “على الأرجح” في اتخاذه. وكان ترامب قد انتقد، في مناسبات عدة، “الرقابة” التي تفرضها شبكات التواصل الاجتماعي، لاسيما خلال الانتخابات الأخيرة في الولايات المتحدة.
الملياردير إيلون ماسك، حليف ترامب، كان سباقا إلى اعتماد هذه المقاربة. إذ عمد في 2022، عقب اقتنائه لمنصة (تويتر)، (X) حاليا، إلى تقليص عدد الموظفين المكلفين بسياسة المحتوى وتخفيف القيود المفروضة على المضامين.
تتمثل أبرز الأسباب الكامنة وراء قرار (ميتا) في تسارع وتيرة اعتماد المنصات التواصلية على تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد. إذ تتيح هذه التقنيات على الخصوص تقليص النفقات من خلال خفض عدد العاملين في مجال التحقق من الأخبار، فضلا عن الانتقادات العديدة التي طالت هذه الشبكات بـ”فرض رقابة على المحتوى وتقييد حرية التعبير على منصاتها الاجتماعية”.
وبرأي العديد من الملاحظين، فإن إقبال شبكات التواصل الاجتماعي على تخفيف القيود المفروضة على المحتوى يعكس “رياحا جديدة” تهب على المشهد السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة، تروم فتح المجال أمام حرية أكبر للتعبير.
غير أن هذا الإجراء يطرح كذلك تساؤلات حول مستقبل الأخبار الزائفة على هذه المنصات، وكيفية احتواء التأثيرات السلبية
للمضامين المسيئة على مستخدمي الشبكات التواصلية الرقمية.