ويقدم المعرض، الذي يعد نافذة يطل منها الجمهور غير المتخصص على خلاصات المشروع البحثي الأوروبي” القرآن في اوروبا” ، نظرة عن تاريخ ترجمة القرآن الكريم إلى مختلف اللغات المستخدمة في القارة استجابة لحاجات فكرية وفلسفية، ولمتطلبات المحاججة بين المذاهب المسيحية (البروتستانت والكاثلويك) أوبين اليهودية والمسيحية، وخصوصا لتلبية احتياجات ما يمكن وصفه بمؤسسة “التبشير” (نشر المسيحة في ديار الاسلام) والذي سبق وواكب المد الاستعماري الأوروبي في العالم الإسلامي والعربي بشكل خاص.
فمن بين النسخ المعروضة ترجمة كاملة للقرآن الكريم إلى اللاتينية أنجزها المستشرق الإيطالي لويس ماراتشي نشرت في بادوفا عام 1698 وهي ترجمة قدمت على أنها “غير عادية من حيث احتوائها على النص العربي المنطوق. ولهذا السبب كان لها تأثير كبير على الدراسات الشرقية ومعرفة اللغة العربية في الغرب “. كما يذكر المعرض بترجمة للقرآن الكريم أنجزها كلود اتيان سافاري (1783) وهي النسخة التي قيل إن نابليون بونابارت اصطحبها معه لاحقا في حملته ضد مصر “للتعرف على ديانة السكان الذين كان ينوي إخضاعهم”.
وقد تستوقف الزائر أيضا أول ترجمة للنص القرآني باللغة الانجليزية تستند مباشرة الى النص العربي، قبل أن يطلع عبر إحدى المواد التفاعلية على كيف أن نسخا من أجزاء القرآن وصلت إلى أوروبا عبر شبكة اتصالات بروتستانتية امتدت عبر القرن ال17 من القاهرة الى سويسرا وألمانيا وانجلترا، وكيف تم عبر هذه الشبكة توزيع هذه النسخ من مخطوطة القرآن المكتوب بالخط الكوفي مع تعليمات حول كيفية فك الرموز مما أتاح للعلماء قراءتها واستخدامها في المناقشات الاكاديمية والتاريخية والدينية أيضا.
ويؤكد القائمون على المشروع البحثي حول القرآن في أوروبا أن للقرآن تأثير كبير في مختلف المجتمعات الاوروبية على الرغم من الصورة الشائعة عن كونها مسيحية خالصة . فعلى مر القرون، كما جاء في إحدى النصوص المعروضة، تم تأويل القرآن وتكييفه واستخدامه من قبل المسيحيين واليهود الاوروبيين والمفكرين الأحرار والملاحدة والمسلمين الاوروبيين ممن كانوا غالبا على اتصال وثيق بالعالم الاسلامي . وفي محطته التونسية (سبق أن أقيم في مدن أوروبية)، اختار القائمون على المعرض (ومنهم دار الكتب التونسية) أن يكون أول ما يصادف زائره بعضا من نسخ القرآن الكريم التي أنجزت وحبست في تونس والتي نهب العديد منها خصوصا خلال الغزو الإسباني سنة 1535، لتصبح اليوم موزعة ما بين مؤسسات متحفية وأرشيفية عبر العالم.
وتكاد كل نسخة من القرآن أو ترجمة له ضمها المعرض تشهد على سياق من سياقات تنقل نسخ القرآن بين ضفتي المتوسط بشكل خاص فيما يفسر رونق وجمالية كثير من المصاحف كيف كانت علاقة الأوروبي المسيحي مع المخطوط أحيانا علاقة بصرية حكمها الاعجاب بالخط والزخرف.
فكما قال مدير دار الكتب الوطنية التونسية خالد كشير، في تصريح صحافي عند افتتاح المعرض، فإن المخطوطات والمصاحف المنهوبة “دخلت لاحقا في سوق المقتنيات الثقافية حيث أصبحت جزءا من المجموعات الخاصة في أوروبا وبعضها لم يكن ينظر إليه فقط كنصوص دينية وإنما كأعمال فنية ذات قيمة تاريخية كبيرة”.
ومما يشد الزائر خلال جولته بمعرض “القرآن في عيون الآخرين “، “سينوغرافيا” العرض حيث يسود ظلام لا تنيره سوى إضاءة متأتية من نسخ وترجمات القرآن فيما تنبعث بشكل مستمر تلاوة لآيات من القرآن الكريم.
كما أن ما يشد المتمعن في تاريخ ترجمة القرآن في أوروبا هو ذلك التفاوت الكبير في الفهم والإخلاص للنص القرآني خصوصا وأن المعرض تضمن أيضا نصوصا عكست محاولات تفسير وتأويل للقرآن الكريم من قبل مسيحيين “مبشرين” و/أو مستشرقين.
وللإحاطة بكثير من هذه الأسئلة التي قد تنبعث من المعرض ومن المشروع البحثي الأوروبي حول “القرآن في أوروبا” نظم معهد الأبحاث المغاربية المعاصرة بتونس عشية افتتاح المعرض في منتصف فبراير الماضي، ندوة حول “الإسلام والقرآن في سياقات الاستعمار ومناهضة الاستعمار وما بعد الاستعمار”.
وقد كانت الندوة مناسبة لرصد مدى التغير الذي حدث في دوافع الاطلاع على القرآن وفهمه من فترة زمنية لأخرى، غير أن الندوة حملت أيضا، في يومها الأول بالخصوص، كثيرا من الأسئلة ومنها سؤال “كيف يستقيم الجمع بين الحوار(مع مسلمين) والتبشير تحت قبعة واحدة؟” وأسئلة عن تأثر الفهم و”الحوار” المفترضين بالحدث السياسي وموقف الأطراف منه كما يشهد على ذلك تأثر محاولات “الحوار” المتأخرة بين أشخاص أو مجموعات من أوروبا ومن العالم الاسلامي، بتبعات بروز القضية الفلسطينية وتجاهل أوروبا المسيحية في عمومها لمظلمة ومأساة الشعب الفلسطيني. يذكر أن المشروع البحثي “القرآن في أوروبا”، الذي موله على مدى ست سنوات (2019-2025) المجلس الأوروبي للبحث العلمي، أنجز من قبل فريق يقوده أربعة باحثين رئيسين هم مرسيديس غارسيا أرينال (مركز الأبحاث في العلوم الانسانية والاجتماعية بمدريد -اسبانيا) وجون تولان (جامعة نانت بفرنسا) وجان لوب (جامعة كوبنهاغن بالدانمارك ) وروبيرتو توتولي (جامعة نابولي -الشرق بإيطاليا).
وتمثل الهدف من المشروع على المستوى الأكاديمي في توفير قاعدة بيانات جغرافية تضم معطيات بيبليوغرافية حول المخطوطات والترجمات وأعمال أخرى مرتبطة بتفسير وتأويل القرآن في أوروبا.