اختتم منتدى الجزيرة الـ16 أعماله في الدوحة بجلسة نقاشية حول العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع، حيث أكد المشاركون أن هذه العملية ليست نموذجًا موحدًا يمكن تطبيقه في جميع الدول، لكنها تستند إلى قيم ومبادئ مشتركة تضمن جبر الضرر، المحاسبة، والمصالحة المجتمعية لمنع تكرار المآسي السابقة.
وخلال الجلسة، شدد المتحدثون على ضرورة إنشاء هيئات مستقلة تضم شخصيات قضائية وحقوقية نزيهة، إلى جانب تمثيل الضحايا ليكونوا شهودًا على عملية تحقيق العدالة. وأكدوا أن نجاح هذه الهيئات يعتمد على إرادة سياسية حقيقية، سيادة القانون، والتوافق الوطني الواسع.
وفي هذا السياق، أشار محمد أوجار وزير العدل وحقوق الإنسان السابق، الذي شارك بدوره في النتدى، إلى أن تجربة العدالة الانتقالية في المغرب اعتمدت على جلسات استماع عمومية، تم بثها مباشرة عبر التلفزيون، مما عزز الشفافية وأتاح للمجتمع فرصة المشاركة في هذه العملية. واعتبر أن لا عدالة انتقالية بدون دولة قانون قوية، تضمن المسافة نفسها من جميع الأطراف، وتحظى بمشروعية انتخابية وتوافق وطني واسع.
كما أوضح أن التجارب الدولية تختلف من بلد لآخر، حيث اختارت بعض الدول، مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، طي صفحة الماضي دون محاسبة المسؤولين، بينما تبنّت دول أخرى نهجًا يعتمد على قراءة الماضي ومعالجته لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
ومن جانبه، أكد أستاذ القانون الدولي محمود برهان عطور أن العدالة الانتقالية ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي جزء من بناء نظام أكثر عدالة وإنصافًا. وأوضح أن الغياب المزمن للعدالة كان من العوامل التي دفعت إلى اندلاع ثورات الربيع العربي، حيث تحولت المطالب من الإصلاح إلى تغيير الأنظمة نتيجة فشل الحكومات في تحقيق العدالة.
أما محمد النسور، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، فقد حذّر من سوء فهم العدالة الانتقالية، مشيرًا إلى أن بعض الدول تعتبرها مجرد وسيلة لعبور المرحلة الانتقالية دون تنفيذ المحاسبة الحقيقية.
و أضاف أن هذا الفهم الخاطئ قد يؤدي إلى استمرار الانتهاكات بدلًا من وضع حد لها.
كما أكد المشاركون في المنتدى أن العدالة الانتقالية ليست مجرد إجراءات قانونية عابرة، بل هي عملية شاملة تتطلب إشراك الضحايا، تحقيق المصالحة، وضمان عدم الإفلات من العقاب. كما شددوا على أهمية وجود إرادة سياسية قوية تدعم هذه العملية، إضافة إلى إصلاح المؤسسات وتعزيز سيادة القانون.
وفي ظل استمرار النزاعات والانتهاكات في العديد من الدول، يبقى تحقيق العدالة الانتقالية تحديًا أساسيًا لضمان المصالحة وعدم تكرار الجرائم. ورغم اختلاف النماذج بين الدول، فإن القيم الأساسية للعدالة الانتقالية تظل ضرورة لضمان استقرار المجتمعات وبناء مستقبل قائم على العدالة وسيادة القانون.
كما تناول النقاش التجربة السورية كمثال على التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في دول الصراع الطويل. حيث أوضح أحد المتحدثين أنه ليس هناك نموذج واحد للعدالة الانتقالية يمكن تطبيقه على جميع الدول، فلكل دولة خصوصيتها، مشيرًا إلى أن زيارته الأخيرة إلى دمشق كشفت عن سوء فهم واسع لمفهوم العدالة الانتقالية، إذ يرى البعض أنها مجرد عدالة مخففة تهدف إلى تجاوز المرحلة الحالية بسرعة، دون محاسبة حقيقية، خوفًا من أن تؤدي المحاكمات إلى إبطاء الانتقال السياسي.
وأكد أن هذا الفهم خاطئ، مشددًا على ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بجميع عناصرها، ووجود إرادة سياسية حقيقية لتنفيذها. وأضاف أن تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع والحكومة الانتقالية الأخيرة تشير إلى التوجه نحو العدالة الانتقالية، مما يستدعي تأسيس هيئة مستقلة ترسل رسالة سياسية واضحة بأن مستقبل سوريا سيكون قائمًا على احترام حقوق الإنسان.
ومن جانبه، أكد فضل عبد الغني، مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن لسوريا خصوصية كبيرة بسبب طول النزاع الذي استمر 14 سنة وحجم الانتهاكات التي مورست خلاله، حيث يوجد أكثر من 115 ألف مختفٍ قسريًا، فضلًا عن ملايين اللاجئين والضحايا.
وشدد المتحدث نفسه على ضرورة أن يكون هناك تصور واضح لهيئة الحكم في سوريا، بحيث تشرف على إصدار إعلان دستوري يتضمن نصًا لتأسيس هيئة العدالة الانتقالية، وعدم العودة إلى دستور 2012 أو دستور 1950. كما أشار إلى الحاجة إلى تحقيق العدالة لضحايا النظام السابق، حيث يوجد 13 مليون مشرد و7 ملايين نازح، إضافة إلى مئات الآلاف من القتلى والمعتقلين.
وأكد أن سوريا بحاجة إلى إنشاء محاكم مختصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مشيرًا إلى أن هذه المحاكم غير موجودة حاليًا، مما يجعل تحقيق العدالة الكاملة تحديًا كبيرًا في المرحلة المقبلة.