من الصعب إنكار أن الأزمنة الغابرة عرفت فكرة التأثير المعنوي على الأفراد، فكان أصحاب الفكر والفلسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو والسفسطائيين يؤثرون بآرائهم وأفكارهم في سواد الناس، ويوجهون عقولهم التي لها السلطان الأكبر عليهم كما قال الفيلسوف والطبيب اليوناني. كما لعب رجال الدين في العصر الوسيط ومن بعدهم فلاسفة الأنوار نفس الدور التوجيهي لسلوك الأفراد داخل المجتمع والتأثير فيهم، وذلك بقصد السمو بأخلاقهم نحو المثالية. واستمر التأثير المعنوي على الأفراد إلى أن ظهرت في القرن العشرين صورة حديثة من مشاهير، ويتعلق الأمر بمشاهير كرة القدم أو مشاهير هوليود، وكانت الشركات الكبرى تقوم باستغلال هؤلاء المشاهير في الدعاية لمنتجاتها وكان محبوهم يتبعونهم في كل شيء. وكان المشهور يقدم عرضا فنيا أو كرويا شهيا يتطلب منه التحضير المستمر والدؤوب، كما أن حياة المشهور الشخصية كانت بعيدة عن مجال عمله وغير مكشوفة للعيان وكان بعض الصحفيين يبحثون عنها بالغالي والنفيس حتى تكون مادة صحفية دسمة ويكشفون للعموم أسلوب حياة ذلك المشهور.
إلا أن المعادلة اليوم تغيرت وانقلبت الموازين، وأضحت الشهرة غير مقتصرة على من يقدم عملا فنيا أو رياضيا فحسب، وإنما أًصبح مشهورا كل من يحمل كاميرا أو الهاتف الذي به كاميرا، ويقوم بتقاسم حياته اليومية مع المتابعين. فهذه الظاهرة بدأت بما يسمون باللغة الإنجليزية Youtubers نسبة إلى موقع الفيديوهات YouTube أو ما يسمون ب Instagramers نسبة إلى موقع عرض الصور Instagram، فكان مستعملو “مشاهير” هذه المواقع يعرضون بعض الدروس ككيفية الطبخ أو طرق ارتداء الملابس التي تساير العصر أو كيفية استعمال مواد التجميل. وظهر في السنتين الأخيرتين تطبيق حديث يسمى ب TikTok يعرض فيه المؤثر TikToker لمحات موسيقية أو رقصات غجرية أو لقطات فلكلورية.
وهكذا، فإن التطبيقات الرقمية ساهمت في خلق صورة حديثة من المؤثرين في سلوك غيرهم، وأضحت الشهرة لا توجب العمل عليها وتقديم أعمال علمية أو فنية أو رياضية التي تتطلب الجهد الكبير، وإنما أصبح من السهل حمل كاميرا والبدء في العمل، وبالتالي يوصف حامل الكاميرا بأنه مؤثر ومن المشاهير ودخل باب الشهرة دون عناء كبير، وذلك يرجع إلى سهولة عرض الفيديوهات المقترن بارتفاع نسبة المشاهدة وتتبع هذه المواقع دون تنقيب عما يفيد، بل أصبح المفيد وغير المفيد سواء وإن لم نقل طغى غير المفيد على المفيد الذي غاب.
وعليه، فإن الشهرة الإلكترونية التي اكتسبها أحد المؤثرين دفعت بغيره إلى فتح قنوات إلكترونية من أجل عرض محتوى رقمي يتصف تارة بأنه خادش للحياء، وطورا بأنه أسلوب حديث غير مقبول داخل المجتمع، على أن الهاجس من وراء ذلك يتمثل في كسب الأموال، الشيء الذي دفع بالشركات التجارية إلى تمويل بعض القنوات لعرض وترويج منتوجها، حيث تجد قنوات متخصصة في توضيح مميزات الهواتف وتدعم من قبل شركات الهواتف العالمية، وأخرى تعرض مواد التجميل وتدعم ماديا من قبل شركات مواد التجميل أو مراكز التجميل، وتجد قنوات متنوعة تمرر إشهارات بطريقة ذكية بوضع بضاعة أو منتج وتصويرها أو القول بأن هذا المنتوج أحسن من غيره أو أحسن من منتوج الشركة المنافسة، وذلك بعرض المؤثر تجربته الشخصية مع منتوج الشركة الداعمة له.
وتجدر الإشارة إلى أن التطبيقات الرقمية أصبحت فضاء خصبا تنشط فيه العصابات الإجرامية المتخصصة في غسيل الأموال وتمويل الإرهاب والاتجار بالبشر وغيرها من الجرائم، ولم تبق هذه التطبيقات فضاءات خاصة للتواصل بين المؤثرين والمتأثرين من خلال عرض المحتويات الرقمية، وأصبحت هدفا للمنظمات الإجرامية العابرة للحدود، خاصة أمام تفشي الجهل وعدم الوعي بحجم الخطر الذي يحف هذه التطبيقات من قبل مستعمليها.
ونظرا للأهمية التي تلعبها مواقع نشر المحتويات الرقمية والتطبيقات الرقمية وتأثيرها على سلوك واختيار المتابعين من ناحية، وقصور القواعد والمبادئ القانونية لحماية المؤثر والمتأثر من ناحية أخرى، تأتي هذه الندوة التي تعقدها كلية الحقوق بجامعة الحسن الأول بوجدة بهدف إبراز الإشكالات القانونية التي يثيرها هذا الموضوع، وذلك بقصد اغناء النظام القانوني المغربي الذي لا زال في المهد.
اكتشاف المزيد من مغربنا24 - Maghribona24
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليقات ( 0 )